إحكام الرقابة على المزادات العقارية
في الوقت الذي ينتشر خلاله انعقاد كثير من المزادات العقارية وتصفية مساهماتها المتعثرة، التي مضى على بعضها أكثر من عقدين إلى ثلاثة عقود من الزمن فأكثر، أصبح لزاماً على الأجهزة الحكومية المعنية بتلك المزادات بصورةٍ مباشرة، وبأنشطة السوق العقارية المحلية بصورةٍ عامّة، مسؤولية تشديد الرقابة على جميع ما يمتُّ بصلة لصفقات البيع والشراء المنعقدة في تلك المزادات العقارية، لما تتضمنه من مخالفاتٍ صريحةٍ، لا يقف أثرها المضلل الغالب على أكثرها عند مجرد إيهام المجتمع والرأي العام.
إنّ السوق العقارية والأسعار يعيشان حالةً من الانتعاش والرواج غير المسبوق، رغم حالة الركود الكبيرة المخيمة على سوق العقار منذ أكثر من عامين، بل تذهب في تضليلها المتعمد تحت مظلة تلك المزادات إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصةً إذا علمنا أنّ أكثر من 90 في المائة من تلك الصفقات العقارية يعلنها منظمو تلك المزادات، ويتم الترويج الشديد لها إعلامياً وتسويقياً، ولا يتم توثيق صفقاتها وإفراغ ملكياتها في كتابة العدل.
رغم وجود بعض ممثلي الأجهزة الحكومية في تلك المزادات، ورغم إعلانات تلك المزادات وجود كاتب عدل لتنفيذ الإفراغ الفوري لصفقات المزاد، إلا أنّ البيانات الفعلية المنشورة على موقع وزارة العدل، التي تغطّي جميع الصفقات العقارية بصورةٍ تفصيلية، تكشف يوماً بعد يوم عن عدم إفراغ أيّ من صفقات تلك المزادات وتصفية تلك المساهمات، بل إنّ بعض المزادات التي تمّت خلال الأشهر القليلة الماضية، مضى عليها حتى تاريخه الشهران والثلاثة أشهر، وإلى الآن لم يتم إفراغ أكثر من 10 في المائة من صفقاتها.
إنّ مما يلفتُ الانتباه في تلك المزادات العقارية أنّه في الوقت الذي يشاهد الجميع سيطرة الركود على أغلب نشاطات السوق العقارية، وارتفاع أعداد إعلانات عروض بيع الأراضي والعقارات بصورةٍ كثيفة جداً على جوانب شوارع المدن والمحافظات، وعلى صفحات الصحف والمواقع الإعلانية، لا يقابلها قوة شرائية على الإطلاق، ورغم تمتّع عديد من تلك العروض بالمواقع المتميزة، وبأسعار تعتبر أدنى بنسبةٍ كبيرة من الأسعار التي يتم المزايدة عليها تحت مظلة تلك المزادات العقارية، تتفاجأ باستمرار ركود سوق تلك العروض المنتشرة إعلاناتها على آلاف اللوحات، مقابل انقضاء أعمال تلك المزادات خلال ساعاتٍ قليلة، وبأسعارٍ تفوق كثيراً أسعار عروض بيع تلك الأراضي المنتشرة في كل شوارع مدننا.
حينما بدأت مراقبة تلك المزادات العقارية، والتأكّد من توثيق وإفراغ صفقاتها على موقع وزارة العدل طوال عدة أشهرٍ مضتْ، انكشف حينها السرّ الدفين، وثبت أنّ أغلب تلك الصفقات لا يتجاوز حدود صناعة الوهم، وأنها لمجرد التضليل وإيهام أفراد المجتمع، أي بمعنى آخر أنّها مخالفات صريحة يعاقب عليها النظام، يكفي أن يطلّع المرء على موادها التنفيذية على سبيل المثال فيما يختص بتعاملات السوق المالية، التي تجرّمها تجريماً واضحاً وصريحاً، تشمل عقوباتها المحددة والمنصوص عليها في نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية، المنع من السفر والسجن والتغريم وتعويض المتضررين من تلك الصفقات السوقية المضللة، ولأن هيئة السوق المالية أظهرتْ حزماً في هذا الاتجاه طوال السنوات الأخيرة، وتنشر إعلانات الأحكام والعقوبات من وقتٍ لآخر على موقع تداول، شهدت السوق المالية معه تحجيماً كبيراً لتلك المخالفات الصريحة في تعاملات السوق المالية، وهذا المراد تحقيقه أيضاً ليس في السوق العقارية فحسب، بل في جميع الأسواق المحلية دون استثناء.
إنّ المأمول من الأجهزة الحكومية المعنية بتنظيم تلك المزادات العقارية، خاصةً في ظل انتشار وتكاثر تلك المزادات العقارية، يتجاوز كثيراً مجرد الحضور التمثيلي لمنسوبيها في تلك المزادات، إلى متابعة ومراقبة تنفيذ صفقات البيع والشراء فعلياً، وتوثيق إفراغ صفقاتها عدلياً، الذي بدوره إن تم بصورةٍ فاعلة وحازمة على أرض الواقع، سنجد جميعاً أنّ الآثار السلبية لتلك الصفقات الوهمية قد تم وأدها في مهدها، وسنجد أنّ الأسعار المصطنعة خلال عدة ساعاتٍ، ويُراد لها أن تنسج أوهاماً في الأصل هي غير موجودة حول أنشطة سوق عقارية هائلة، كل ذلك سيتلاشى تماماً، وسنجد أنّ التنفيذ الفعلي للصفقات العقارية سيسير في الطريق الحقيقي، دون أي مبالغة أو اصطناع أو تزييف أو إيهام.
إننا نتحدث عن أحد أهم وأخطر الثغرات في جسد السوق العقارية، التي تسرّب ولا يزال يتسرّب منها أكبر مغذيات الأزمة الإسكانية المحلية، ونعلم جميعاً أنّ التصدّي لتلك المخالفات الصريحة من قبل الأجهزة الرسمية، سيواجه مقاومة ليست بالهينة من أقطاب السوق العقارية، وهو ما اعتدنا عليه طوال العقد الماضي بخصوص كثير من القرارات والإجراءات التنظيمية المتعلقة بالسوق العقارية، لعل أكبر شاهدٍ عليها ردة الفعل الهائلة التي أظهرتها الأقطاب العقارية، حينما أوكل تنظيم المساهمات العقارية إلى هيئة السوق المالية، ووضعت الأنظمة الصارمة التي تقنن عمل تنظيم المساهمات العقارية، شهدنا معه خفوت نجم تلك المساهمات العقارية، وانسحاب كثير ممن كانوا يجمعون الأموال الطائلة تحت مظلة الإجراءات الهشة السابقة لتأسيس المساهمات العقارية أمام سطوة النظام الجديد، بل إنّ المجتمع لا يزال يكابد أشكال المعاناة والصعوبات مع بقية المساهمات العقارية المتعثرة (يصل عدد المساهمات الخاضعة في الوقت الراهن للتصفية إلى 251 مساهمة عقارية متعثرة، من بين 434 مساهمة عقارية كانت قد وصلت إليها).
لم في الإمكان ترْك الأمور في هذا الشأن كما كانت عليه، خاصةً أنّ آثارها تحمل كثيرا من السلبية على الأداء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، بما يتجاوز مجرد حدود السوق العقارية، وكونها تمس الأزمة التنموية الأولى لدينا ممثلةً في أزمة الإسكان، ما يجب على الأجهزة الحكومية المعنية بها في مقدمتها كل من وزارة التجارة والاستثمار ووزارة العدل، أن تبادر إلى إحكام السيطرة والرقابة على كل ما يتعلق بتلك المزادات العقارية، وإخضاعها للمتابعة الصارمة، والتأكّد من تنفيذ إفراغ ونقل ملكيات الأراضي المباعة بناءً على الأسعار التي تم الاتفاق عليها والإعلان عنها، وتطبيق العقوبات الرادعة على كل من يتورّط في أي مخالفاتٍ تتعلق بتنفيذ تلك الصفقات العقارية. والله ولي التوفيق.