دخنة.. حي العلماء في الرياض القديمة
في القرن الـ12 الهجري كانت غالبية المناطق العربية والإسلامية في حالة مزرية من انتشار الجهل واختلال الأمن.
ولم تكن شبه الجزيرة العربية بمعزل عن ذلك، ولعلها أخذت النصيب الأوفر من الجهل والفوضى.
كانت الحروب الأهلية منتشرة في أغلب رقاعها، وكانت الحاجة ماسة إلى قيام دولة.
وتبدأ نواة دولة جديدة في مدينة الدرعية على يد الإمام محمد بن سعود، وسريعا تتوسع الدولة آخذة على عاتقها نشر العقيدة السليمة ونشر العلم وإحلال الأمن مكان الفوضى.
تدخل مدينة الرياض في منظومة الدولة السعودية الأولى، ويأتي بعض الأمراء والعلماء إليها. وفي حي دخنة، وهو من أحياء الرياض العتيقة رأوا ضرورة إقامة مسجد.
دخنة حي العلماء
دِخنة حي قديم ومحلة من محال الرياض التاريخية، وتقع تاريخيا ضمن قلعة الرياض، جنوب ساحة الصفاة.
سمي الحي بهذا الاسم نسبة إلى بئر قديمة كانت تروي عدة بساتين.
وأصبح حي دخنة في القرن الـ14 الهجري من أكبر وأشهر أحياء مدينة الرياض، بل كان قلب الرياض النابض، الذي يعج بالتجارة والبيع والشراء، كما سكن فيه كثير من أهل المدن والقرى السعودية وغيرهم، الذين وفدوا إلى الرياض للاستقرار أو العمل أو الدراسة فيها.
#2#
ويصف السفير العراقي في السعودية أمين المميز، الذي زار الرياض في شهر شوال عام 1373هـ حي دخنة بأنه قلب مدينة الرياض والسوق الرئيسي للبيع والشراء، وأنه شاهد أكوام الحبوب وأكداس التمور متراكمة أمام الحوانيت، وأن هذا الحي يقطنه العلماء.
وفي هذا الحي يقول الشاعر محمد بن شايق:
سلم إلى من جيت ذيك الصفاتي
على الذي فيها من الربع جلاس
ثم ردها بأسواقنا المجنباتي
يم سوق دخنة خلها قدر مِرواس
يميز هذا الحي أن معظم سكانه من الفقهاء والعلماء، ومساكنه عامرة بدروس العلوم الشرعية، كما كانت بعض البيوت مفتوحة لدراسة تلك العلوم، وهو حي مكتظ بالسكان، سكنه عديد من الأسر المعروفة وكثير من الشعراء والفرسان، كما كان فيه رباط الإخوان، الذي يجتمع فيه طلبة العلم زمن الملك عبدالعزيز.
بناء الجامع
أنشئ جامع دخنة بعد دخول الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود لمدينة الرياض في اليوم 15 من شهر ربيع الآخر لعام 1187هـ/ 1773م، ثم قام الشيخ عبد الله بن محمد بالبدء في بناء هذا المسجد، ويذكر أنه خط قبلة المسجد ليلا عن طريق الاستدلال والنظر من خلال معرفته بالنجوم، ثم شرع في البناء بمشاركة أهالي مدينة الرياض.
ويقع مسجد دخنة الكبير في الجهة الجنوبية الغربية من حي دخنة وسمي بالكبير تميزا عن مسجد دخنة الصغير، كما عرف باسم مسجد الشيخ عبد الله، ويسمى اليوم مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم.
ويعد مسجد دخنة ثاني أكبر المساجد التاريخية حجما في مدينة الرياض القديمة بعد الجامع الكبير، جامع الإمام تركي.
#3#
بني المسجد على الطراز النجدي القديم بالطين واللبن المجفف وجعل سقفه من جذوع النخل وفرش بالحجارة، وقسم إلى قسمين: قسم محكم الإغلاق يدعى الخلوة يصلى فيه في الشتاء، وقسم فتحت إحدى جهاته يصلى فيه في غير أوقات البرد. وفي هذا المسجد عدد من المساقي التي تبرع فيها المحسنون، وهي آبار مياه للوضوء والغسل وللشرب.
التوسعة والتجديد
ضاق المسجد مع ازدياد الناس، فهدم وبني بالطين واللبن مع توسعته، سنة 1361هـ، وكتب نقش في جهة المحراب مؤرخا بتاريخ بنائه الثاني.
ثم رمم المسجد عام 1376هـ، وفي عام 1381هـ هدم المسجد وبني بناء مسلحا مع توسعته في الجهة الشرقية، وفي سنة 1403هـ بني المسجد بناء مسلحا جديدا، وظل باقيا حتى عام 1421هـ، إذ أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز، وكان حينها وليا للعهد، بإعادة بنائه وضمت أرض المحكمة القديمة بدخنة إليه، وأسند المشروع إلى الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، وهو الآن على هذا البناء.
الأئمة والمؤذنون
تولى إمامة المسجد مجموعة من العلماء من بينهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ثم الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بعد قدومه من مصر عام 1264هـ، ثم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ثم الشيخ حمد بن فارس، ثم الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.
كما تولى إمامته الشيخ عبد الله الغانم والشيخ محمد بن عتيق والشيخ سعد بن عتيق وغيرهم.
وممن قام بمئذنة المسجد الشيخ إبراهيم بن حمدان ثم أذن به معلم القرآن المشهور الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن مفيريج في الثلث الأول من القرن الـ14 الهجري ثم أذن به أخوه الشيخ عبد الله ثم ابنه الشيخ ناصر بن عبد الله المفيريج ثم بعده ابنه الشيخ عبد المحسن بن ناصر بن المفيريج.
حلقات العلم
ومما تميز به جامع دخنة كثرة حلقات العلم والمعرفة التي تقام فيه، وقد أشار إلى شيء من ذلك الرحالة وليم بالجريف في رحلته للرياض سنة 1279هـ. وشهد هذا المسجد أشهر حلقات التدريس والتعليم في الرياض، فتدرس فيها أصول الدين، واللغة، والحديث، والفقه، والفرائض، ومن أبرز العلماء الذين درسوا في هذا المسجد: الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ حمد بن فارس الذي برز في علوم النحو واللغة، ودرس عليه جمع غفير من العلماء ومن طلبة العلم أشهرهم الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، وممن درس في جامع دخنة أيضا الشيخ عبد الله بن راشد، المشهور بعلم الفرائض، والشيخ عبد الرحمن بن عدوان، والشيخ محمد بن إبراهيم، وغيرهم من العلماء.
كان طلبة العلم يأتون تباعا إلى الرياض للدراسة على علمائها، وقد تحدث الشيخ حمد الجاسر في كتابه "سوانح الذكريات" عن تفاصيل ذلك. وقد ازدادت الحلقات العلمية في هذا الجامع بعد استقرار الأوضاع وتكامل أسس الدولة وقدوم الطلبة من مختلف أنحاء البلاد في منتصف القرن الـ14 الهجري. ويصور ذلك هاريسون الذي زار الرياض عام 1918 ويذكر أن المئات يدرسون في المساجد ليكونوا معلمين دينيين بين القبائل وكانت الرياض مركزهم الديني والثقافي ومنها يوزع العلماء إلى أنحاء البلاد.
الكتاتيب
كما يتربع على جانبي هذا المسجد أشهر معلمين في الرياض خلال القرن الرـ14، وكانا يدرسان الأطفال في الكتاتيب. ففي الجانب الجنوبي من هذا المسجد كان كتاب الشيخ محمد بن مرحوم، الملقب بابن مصيبيح، يدرس ويعلم الأطفال ويحفظهم أجزاء من القرآن الكريم، ودرس بعده ولداه عبد الرحمن وصالح، وممن درس في هذه المدرسة الملك عبد العزيز وبعض إخوانه. وفي الجانب الشمالي من المسجد كتاب أو مدرسة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن مفيريج، وقد درس عليهما كثير من الأمراء والعلماء وطلبة العلم والوجهاء، الذين أصبح لهم فيما بعد دور كبير في هذا الوطن.
واستمر التدريس في هذا المسجد مع حلقات العلم والتعليم، وتذكر المصادر أن كتاب ابن مصيبيح في جامع دخنة استمر حتى عام 1370هـ/ 1950م، عندما افتتحت المعاهد العلمية والمدارس.
بقي المكان وإن تغيرت ملامحه بيتا من بيوت الله للعبادة ومنارة للعلم.. منذ العقد الأخير من القرن الـ12 الهجري حتى اليوم، بقي المكان ليحكي ذاكرة قرنين ونصف عطرها الإيمان وشذاها نور المعرفة، بقي شاهدا على تاريخ أجيال تعاقبت من الأجداد إلى الأحفاد. وكلهم كانوا هنا، في مسجد دخنة الكبير.