«المجلة العربية» تستنطق جبال «حائل» وتستمطر غيمها أدبا وفنا وثقافة
جريا على ما تفردت به من قراءات ثقافية مميزة للمدن وحضاراتها المتنوعة، احتفت "المجلة العربية" في عددها الأخير بمدينة غالية على قلوب الكثيرين، مدينة لطالما رحبت وأكرمت الغريب البعيد قبل القريب، فاستحقت عن جدارة من يبادلها الكرم والوفاء. وكأن المجلة تتمثل بهذا الاحتفاء قول الشاعر الراحل غازي القصيبي حين حل في حائل زائرا قبل أكثر من عشر سنوات:
حائل المجد مجدي أن أكون هنا.. أنيخ قلبي في سلمى الرؤى أو أجا
هديتي بضع أبـيات ولو سمحـت.. لنا الأماني لأهدينا لك المهجا
أدب وثقافة
ولذلك، كان الاحتفاء مختلفا، بدءا بصورة غلاف لرجالات حائل يؤدون عرضتهم التراثية الترحيبية، بينما في خلفية الصورة تظهر جبال حائل الشهيرة تعانق غيمها في انتظار المطر الذي إن شح قطرا. فإنه لا يغيب ألقا وسخاء، فنا وثقافة. لتمضي المجلة في مواضيعها المتنوعة، باستهلال رئيس التحرير محمد السيف افتتاحيته التي عنونها بـ "حائل الأدب" مذكرا ومشيدا بحلقات العلم والتعليم التي وقفت خلف بروز عدد من رجالات الدولة ممن شاركوا في مرحلة توحيد وبناء الوطن. مؤملا السيف أن "يلهم هذا الملف الجيل الجديد والناشئ مواصلة سيرة رواد الأدب والثقافة".
#2#
وهنا، تسطر المجلة العربية بطاقم تحريرها والمتعاونين معها، درسا عمليا في مضمار "الإلهام" و"تواصل الأجيال" باستكتابها لشباب حائل وأبنائها في هذا الملف. فقد جاءت العناوين متنوعة والطرح غنيا وماتعا، إذ يربط ماضي حائل بحاضرها، وصولا لدعوات صادقة من أبنائها ومحبيها، تحف مستقبلها المأمول.
ورشة عمل بحثية مصغرة قدمها العدد، تناولت كثيرا من تاريخ المنطقة وإرثها بالاستقصاء والتوثيق، لتنشر المجلة وثيقة نادرة لم يكشف عنها إلا أخيرا حول حقيقة هدم قصر برزان ذائع الصيت، الذي انتشر حوله كثير من الشائعات والأقاويل. فأتت هذه الوثيقة لتفند كثيرا من الافتراءات، مؤكدة رغبة أهالي المنطقة آنذاك في هدم جزء منه والاستفادة من جزء آخر كمحال تجارية. وكل ذلك موثق بأسماء الأعيان الذين تقدموا بهذا الطلب، والمبالغ التي قيدت لهذا العمل، في خطاب موجه لأمير المدينة آنذاك عبد العزيز بن مساعد بن جلوي 1380هـ.
سمَر وتسامح
وكما شدد الملف على الخسارة التراثية الوطنية الكبيرة بهدم هذا القصر، استعرض أيضا مراحل اجتماعية وثقافية مرت بها المدينة، على مستوى المكون الاجتماعي وطبائع الترفيه وأدواته الثقافية. فالسينما والموسيقى التي تغيب صالات عرضها واحتفالاتها اليوم عن حواضر مدن سعودية بما فيها حائل، كانت جزءا من الترفيه الثقافي المعتاد بدعوات علنية من بعض البيوتات الشهيرة أو من قبل ناديي "الجبلين" و"الطائي" الرياضيين، اللذين امتد نشاطهما في أيام خلت ليشمل إقامة الأمسيات الثقافية والموسيقية والسينمائية كحاضن اجتماعي ثقافي، مفيد وماتع، لأهالي المنطقة وشبابها في ذلك الوقت - خصوصا - إذا ما تساءلوا: "أين نذهب هذا المساء"؟
هذه الأجواء العلمية والأدبية والفنية جعلت من عروس الشمال "منجما" للمطربين والأدباء والعلماء على حد تعبير المجلة، كما كانت شاهدا على عصور من التسامح والتعايش المذهبي. إذ تتطرقت إحدى الأوراق المهمة والفارقة في ملف المجلة العربية عن حائل المدينة لأسر "المشاهدة"، وهم جماعات شيعية قدمت من منطقة النجف، وسموا بذلك نسبة لسوق المشهد في العراق.
#3#
و"المشاهدة" في بدايات ترحالهم كانوا يزورون حائل باستمرار، ثم قرروا أن يمكثوا فيها أكثر من قرن من الزمان 1263 ـ 1283، لما شهدوه من طيب تعامل وكرم. تنوع ثقافي أثرى المنطقة وسكانها تنمويا واقتصاديا قبل أن يعود بعضهم إلى النجف، فيما انتقل البعض الآخر عن طيب خاطر إلى المدينة المنورة، بعد عقود من التعايش والإخاء. وقد رصدت المجلة في ملفها صورا إنسانية من صور هذا التعايش.
زخم «التحديث»
ما سبق، غيض من فيض الوثائق والقصص والإحالات التي تميز بطرحها ملف حائل بجهد ثلة من أبنائها وبتنسيق وإخراج فريق متكامل، فنيا وتحريريا. كما هو الحال مع غيره من الملفات السابقة. إضافة إلى مواضيع عربية وعالمية تطرقت لفنون متنوعة ولأسماء فارقة في مجالاتها. فهناك الحوار المطول مع الأديبة غادة السمان، وهناك أيضا التأبين المستحق لقامة أكاديمية وثقافية محلية بارزة، المؤرخ عبدالله العسكر الذي فجع محبيه برحيله إثر حادث سير بعد زيارة لمكتبة الإسكندرية الشهيرة.
يذكر أن هذا الزخم في التحديث إلكترونيا وورقيا الذي يرافق خطوات المجلة العريقة، عمل على كثير من الملفات والقضايا باحتراف صحافي مماثل، وبزخم متنوع في محتوى المجلة وحواراتها وأبوابها المتجددة، فضلا عن منشوراتها المصاحبة من كتب ومجلات علمية تعنى بالنشء الصغير قبل الأديب الكبير، وهو ما يحسب ـ وفق متابعين ـ لإدارة تحريرية خبيرة ومتميزة، صحافيا وثقافيا، برئاسة محمد السيف، وبإشراف مباشر من وزير الثقافة والإعلام الدكتور عادل الطريفي، لقناعة حاضرة وعميقة تجاه ما تمثله هذه المجلة من واجهة حضارية وثقافية وطنية مهمة.