10 % من سكان بريطانيا يملكون نصف ثروة البلاد
ما إن تطالع الصحف أو المجلات البريطانية، إلا وستجد دائما مقالا أو بحثا ينتقد الأوضاع الاقتصادية والسياسة في كل قارات العالم من الصين إلى شيلي مرورا بالطبع بعالمنا العربي، وستجد دائما – كما يرد في وسائل الاعلام البريطانية - أن سبب الخلل الحادث في تلك البلدان يكمن فيما تصفه وسائل الاعلام تلك بغياب العدالة في توزيع الدخل والتباين الشديد بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
لا أحد ينكر بالطبع أن هناك فجوة طبقية في العديد إن لم يكن كل بلدان العالم، وإن تفاوت حجمها وخطورتها من بلد إلى آخر، لكن تحميل كل مشاكلنا إلى ذلك التفاوت الطبقي، والتغاضي – عمدا – عن دور التدخلات الخارجية في إحداث البلبلة والقلاقل داخليا، يعد تحليلا منقوصا ومعيبا.
ففيما يمكن اعتباره بانقلاب السحر على الساحر، أصدرت منظمة "أوكسفام" الخيرية الشهيرة بحثا يكشف حجم التفاوت الطبقي وغياب المساوة في توزيع الثروة والدخل في بريطانيا، ويضع المملكة المتحدة في مقدمة دول العالم المتقدم التي تغيب فيها العدالة الاجتماعية بين الطبقات المختلفة.
واعتبرت "أوكسفام" أن تصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي أظهر خطوط تقسيم قوية وواضحة في المجتمع، ناتجة عن عقود من مستويات الظلم الاقتصادي المرتفعة، مشيرة إلى أن استفتاء حزيران (يونيو) كان مثالا واضحا لمدى الاستقطاب المجتمعي، حيث أعرب ملايين الناخبين عن إحباطهم من عدم حصولهم على فرص سياسية واقتصادية.
التقرير الذي يستند إلى بحث كلية الاقتصاد في لندن، يكشف عددا من الأرقام والبيانات الصادمة عن توزيع الدخل في المملكة المتحدة، لكن أكثرها إدانة للنمط السائد لتوزيع الثروة في البلاد، تمثل في أن أغنى 1 في المائة من البريطانيين يمتلكون 20 ضعفا لثروات خمس السكان، وهذا الرقم كفيل بأن يجعل بريطانيا واحدا من أسوأ البلدان المتقدمة فيما يتعلق بالمساواة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وقال ريتشارد أور مدير برنامج المملكة المتحدة في المنظمة إن المملكة المتحدة تعد من أغنى دول العالم، ولكنها دولة مقسمة إلى أغنياء وفقراء، مضيفا أنه على الرغم من ارتفاع مرتبات المسؤولين التنفيذيين، يعيش واحد من بين كل 5 بريطانيين تحت خط الفقر ويواجه صعوبة في دفع الفواتير وتوفير الطعام.
بريت ألبرت الباحث البريطاني في جامعة "كينت" يؤكد لـ "الاقتصادية"، أن الدراسة التي أعدتها مؤسسة "أوكسفام" تكشف عن خلل خطير في البنية الاقتصادية للمجتمع، وتراجع كبير في العديد من المكتسبات الاقتصادية التي حققتها الرأسمالية البريطانية، التي كانت تفتخر دائما بأنها أكثر رشادة وإنسانية من نظيرتها الأمريكية، ولا شك أن ما كشفت عنه الدراسة بأن 634 ألف بريطاني يمتلكون ثروات تعادل ما يملكه 13 مليون من فقراء بريطانيا، سيثير جدلا سياسيا عنيفا في البلاد، وسيمنح خصوم حكومة حزب المحافظين ذخيرة للهجوم العنيف عليها.
وأظهرت الدراسة أيضا أن 10 في المائة من سكان بريطانيا يمتلكون أكثر من نصف ثروة البلاد، وأن أكثر 1 في المائة ثراء بين هؤلاء يمتلك 23 في المائة من ثروة بريطانيا، بينما يمتلك أفقر 20 في المائة من السكان ما يعادل 0.8 في المائة من الثروة.
الدكتور آندرو هيرفي أستاذ الاقتصاد المقارن في جامعة كانتربيري يوضح لـ "الاقتصادية"، ما يعتبره أسبابا كامنة وراء هذا التفاوت الطبقي، وأن ما يحدث الآن هو نتاج لسلسة طويلة من السياسات التي انحازت إلى الأثرياء منذ عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، وبعد ذلك حكومات حزب المحافظين، التي انحازت لرؤوس الأموال الكبيرة، مشيرا إلى أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي بدأت بالأساس كأزمة مالية، أضرت كثيرا بالطبقة المتوسطة وأدت إلى تراجع أوضاعها الاقتصادية.
ويعتقد البعض أن أبرز تجليات عدم العدالة في توزيع الدخل في المملكة المتحدة تمثلت في نتيجة الاستفتاء الأخير، حيث اختارت الأغلبية العظمى من الناخبين الخروج من الاتحاد الأوروبي، على أمل أن يسمح لها ذلك بمزيد من تحسين أوضاعها الاقتصادية.
وعلى الرغم من إقرار التقرير بأن بريطانيا واحدة من أكثر دول العالم ثراء، فإن الفقر فيها قد وصل إلى مستويات غير متوقعة، إذ يبلغ عدد سكان بريطانيا الذين يعيشون تحت خط الفقر حاليا نحو خمس عدد السكان أي ما يعادل فرد من بين كل خمسة أشخاص، ولهذا تعد مكافحة الفقر في مقدمة أولويات الحكومة الراهنة.
وفي أول رد فعل على تقرير مؤسسة "أوكسفام"، أكد المتحدث باسم الحكومة أن العديد من الخطوات اتخذت أخيرا لتقريب الفجوة الطبقية في المملكة المتحدة، لكنه أشار إلى أن السلطات البريطانية تدرك تماما أن الطريق طويل وأن العديد من الإجراءات يجب اتخاذها لعبور تلك الفجوة.
ومع هذا يرى بعض الاقتصاديين من حزب المحافظين الحاكم، أن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في بريطانيا، يصعب تصور إمكانية معالجته أو التصدي له خلال العقدين المقبلين على الأقل.
ويقول لـ "الاقتصادية"، الدكتور استون هاملتون الخبير الاقتصادي وعضو حزب المحافظين، إن اتساع الفجوة بين الفقرة والأغنياء يعود في جزء منه إلى طبيعة السياسات الاقتصادية التي يتم تبنيها، كما يعود في جزء آخر إلى طبيعة التطور الاقتصادي ذاته، فالمنظومة الاقتصادية العالمية باتت أكثر اعتمادا على رؤوس الأموال الضخمة والعملاقة.
وأشار هاملتون إلى أن حدة المنافسة لجذب الاستمارات الدولية باتت شديدة الشراسة، ويتطلب ذلك سياسات اقتصادية أكثر ملاءمة وانحيازا للشركات متعددة الجنسيات، لإقناعها بالاستثمار في بلد ما، وهذه السياسات بطبيعتها لا بد أن تتضمن خصومات ضريبية كبيرة وتسهيلات مصرفية وغيرها من التدابير، التي تصب بالأساس في مصلحة تلك الشركات وكبار المستثمرين.