«التراث الثقافي» .. نموذج جديد للتنمية يعزز جودة الحياة
في أيامنا هذه، وفي عصر العولمة تحديدا، صار كل العالم يتحدث عن التراث، ويريد حمايته، وصيانته، وإعادة ترميم ما تلف منه وتداعى، لأن كل واحد يبحث عن هويته، وعن جذوره في الماضي؛ لأن الكثير من الشعوب والأمم تخشى اليوم من أن تُقْدم الحضارة المعاصرة، المتعطشة للكسب المادي، على محو آثار المجتمعات التي سبقتنا وانقرضت. تخليد الحاضر غريزة في الإنسان، لأن الزمن يتغير ويتوارى خلف النسيان، ولذلك حرص الإنسان، منذ القدم، على تخليد حاضره بشتى الوسائل التي لا تتعارض و"جودة الحياة" المرجوة بل تعزز منها.
يلامس كل البشر
لا شك أن التراث لا يعني أمة بعينها، وإنما يهم ابن آدم في كل نقطة من هذه الأرض، وفقا لدراسة مختصة يقدم لها الباحث الجزائري مدني قصري، وهو لا يعني الماضي بقدر ما يعني "استحضار" الحاضرِ وإن أصبح ماضيا، لأن الماضي، ببساطة، كان حاضرًا لحظة وقوعه.
التراث الثقافي يلامس كل البشر، ولا يقتصر أي تراث كان، في أيّ مكانٍ كان، على المجتمع الذي ينتمي إلى هذا المكان، لأنّ ما يصنعه الإنسان، مهما عظم، فهو ليس إلا لبنة في بناء حضارة الإنسان التي تنمو وتتطور، وتنتقل من جيل إلى جيل، عبر المكان والزمان. والتراث الثقافي لا يمثل فقط المرجعيات المشتركة بين أفراد المجتمع، وهويتهم المشتركة، ولكنه يحمل إلى الآخر بصمات إنجازاته أيضا. فإذا كانت الثقافة، تاريخيا، هي التي أقامت الحدود بين الشعوب والأمم والحضارات؛ فهي حدود بلا جدران. لقد كسرت أسوارها الهجرات والاستعمار، والسياحة والكتب والإعلام والاتصالات، والتبادل بين الشعوب والأمم. وخير دليل على ذلك، أن الذين اكتشفوا آثارنا عبر العقود كان معظمهم من بلدان غير بلداننا. ليس فقط لأننا عاجزون عن ذلك، أو مقصرون، ولكن أيضًا لأن ما نملكه يهم الآخرين، شكلا ومضونا.
ذلك لأن كل شيء ينجزه ابن آدم يصبح مع مرور الزمن تراثا ذا قيمة.. العمارة والمدن، والمناظر الطبيعية، والبنى الصناعية، والتوازنات البيئية، وحتى الشفرة الوراثية التي يحملها كل واحد منا. ناهيك عن أن الكائن البشري، مثل أي حيوان أو نبات، يتلقى من والديه إرثا كبيرا، ينقله بدوره لأولاده وأحفاده من بعده.
ملك عام ومشترك
يقوم التراث على فكرة الإرث الذي تركته أجيالٌ من قبلنا، وعلى وجوب أن ننقله سليما كاملا للأجيال القادمة، ومن هنا الحاجة إلى بناء تراث ليوم غد. ويعني ذلك، كما يقول المختصون، أننا بهذا المفهوم نتجاوز كثيرا مفهوم الامتلاك الشخصي (حق الانتفاع" الذي كان سائدا في القانون الروماني)، لأنه مِلك عام ومشترك. ويعد الفيلسوف هنري برجسون أول من فكر في توسيع فكرة مفهوم التراث الثقافي من خلال المشاركة في عام 1921 في ولادة اللجنة الدولية للتعاون الفكرية، التي سبقت ميلاد اليونسكو 1945. في البداية، كان مصطلح التراث الثقافي يعني في المقام الأول التراث المادي (المواقع والمعالم التاريخية، والأعمال الفنية..). وقد أعدت اليونسكو في عام 1972 قائمة بالتراث العالمي الذي يشمل المئات من المواقع في جميع أنحاء العالم. تقول ساندرين بازيليكو الباحثة في مجال التراث الإنساني، إن تعريف التراث يتطور ويتغير على مر الوقت. فكل جيل يعيد تعريف الحدود التي تميز الكائن التراثي الحي والمتطور؛ فالتراث ما انفك ينفتح وبشكل دائم وموسع على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المعاصر. هناك التراث المعماري، والآثاري، والريفي، والديني، والبحري، والصناعي، والحضري، والعلمي، واللغوي. وفي كل هذه السياقات كان الأمر يتعلق بنقل التراث من جيل إلى جيل، وكان هذا التراث يثمن في كل مرحلة من المراحل. وتضيف هذه الباحثة أن التراث الثقافي يتخذ الآن بعدا آخر، حيث لم يعد قطاعا هامشيا، ولكنه يحتل قلب التنمية المجتمعية، ليس فقط في أبعادها الثقافية، ولكن أيضا في الأبعاد الاقتصادية والسياسية على السواء؛ لأن الإنسان، من خلال العولمة وظهور مجتمع الشبكات التي تستخدم التكنولوجيات الجديدة في الاتصالات، انتقل من الاقتصاد الصناعي إلى مجتمع الإعلام ما بعد الصناعي الذي أصبحت فيه التنمية تعتمد على الاقتصاد الثقافي والمعلومات، أكثر من اعتمادها على المواد الأولية التقليدية ومصادر الطاقة. وهكذا أضحى "التراث الثقافي" بالمعنى الواسع للمصطلح، مصدر ازدهار ورخاء أيضا. وتشير الباحثة إلى أنه إذا كان للتغيرات الاقتصادية الجارية مزايا كبيرة تقدمها للتنمية، فإن هذه التغيرات سوف ترافقها توترات وتباينات متعددة، لأن عولمة الاقتصاد من المرجح أنها لن تجد مواصفاتها الاجتماعية والأخلاقية إلا بعد عدة عقود، لأن المواجهة العالمية للتقاليد الثقافية، الناجمة عن تسارع التبادلات التجارية وتقلص المسافات، تنطوي على مخاطر المواجهة وتصاعد التطرف بشتى أشكاله.
مصدر حوار وتفاهم
ويرى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيون، وفقا للباحثة، أن التراث ما دام عاملا أساسيا من عوامل الهوية الثقافية؛ فهو أيضا مصدر للحوار بين الثقافات، وللتفاهم المتبادل وللمواطنة. فإذا كان التراث الإنساني يحتل مكانا مهما في عمق التحولات الكبرى التي تؤثر في مجتمعاتنا، فذاك في المقام الأول لأنه يتوافق مع تطلعات المواطنين القوية. فالأمر يتعلق أحيانا بالبحث عن معالم ومرجعيات يتم البحث عنها في صور وتعابير الذاكرة، بل ويتعلق الأمر أكثر من ذلك في كثير من الأحيان بطرح نماذج جديدة للتنمية، وبالتالي للحياة نفسها بشكل عام. فاليوم، صار التراث يعني كل شيء يشهد على تطور المجتمع ويصون ذاكرة الأنشطة البشرية المهملة، أو التي في طريقها لأن تهمل. ولذلك يبدو الهوس الحالي بالتراث ملجأ ملحًا في عالم أضحى في حاجة إلى قيم.
لا شك أن الحاجة إلى القيم تزداد إلحاحا في زمن العولمة أكثر من أي وقت مضى؛ فما دام التراث الإنساني يندرج اليوم في سياق الاقتصاد العالمي؛ فهو يقع في قلب التنمية الاقتصادية، لكن إدماجه أو اندماجه في الاقتصاد العالمي وفي مجتمع المعلوميات لا يخلو من صعوبات في مجال الحفاظ عليه، لماذا؟ لأن منظمة التجارة العالمية، تعتبر الممتلكات الثقافية على الشبكات ممتلكاتٍ إلكترونية، وبالتالي فهي تخضع للغات GATT (الاتفاقية العامة حول التجارة والرسوم الجمركية، 1948) وللغاتس GATS (الاتفاقية العامة حول تجارة الخدمات، 1995).
وتستنتج الباحثة من هذه المعطيات أن العولمة توجهنا إلى أربعة تحولات رئيسة: زيادة في التبادلات التجارية التي تعبّر وتعكس انفتاحا متزايدا للاقتصادات العالمية، والدور الذي تلعبه الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للحدود، ما يؤدي إلى تنظيم عالمية للإنتاج، وتسريع الحركة العالمية لرأس المال، وفورية المعلومات وآنيتها. "استدامة العولمة مرهونة بتوسيع تأملها وأساليب نشاطها إلى تاريخ الشعوب، وحركات السكان، وإلى تعدد أبعاد مشاكل المجتمعات في ظل العلاقات الدولية". ومن هنا إذن، يجب إعادة تعريف التراث الإنساني كمصدر مشترك، في متناول الجميع، مثل الهواء، أو فضاء السير العام، أو كـ "مِلك عام عالمي". وبهذا المعنى، يقول الباحثون إن تعريف التراث الإنساني يجب أن يُطرح من زاوية المصلحة العامة للبشرية جمعاء، مرتبطة بحقوق الإنسان الثقافية.
عامل تنمية وازدهار
ترتبط التنمية المستدامة، في رأي الباحثة، بالأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية؛ فهي تُلزم بالتفكير على المدى الطويل، وبتلبية احتياجات الأجيال الحالية، دون الإضرار بالأجيال القادمة. فاليوم، يعتبر التراث ظاهرة واسعة يمكن أن تسهم في الديمقراطية والازدهار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي في المجتمع المُعَوْلَم، ولذلك فهو يندرج في صميم التنمية المستدامة، من خلال وظيفته كناقل. وكدليل على ذلك إعلان هلسنكي (1996)، الذي يحدد دور التراث كعامل من عوامل التنمية المستدامة. وهناك أيضا اتفاقية برن لسنة 1979 بشأن الحفاظ على الحياة البرية والبيئة والوسط الطبيعي لأوروبا، التي تنص على أن "النباتات والحيوانات البرية تشكل تراثا طبيعيا ذا قيمة جمالية وثقافية وترفيهية واقتصادية وجوهرية يجب الحفاظ عليها ونقلها إلى الأجيال القادمة". فالتراث الثقافي يرتبط إذن، بكل من الأبعاد الثلاثة للتنمية المستدامة: البعد الاقتصادي (إدراجه في المعول)، والبعد الاجتماعي، ويتضمن عامل الهوية والتكامل، والبعد البيئي، بسب ندرة المناظر الطبيعية، لأنه لا بد من أن ندرج البشر في تاريخ كوكبنا؛ فالطبيعة كثيرا ما تغيرت ملامحها بسبب تدخل الإنسان، سواء عن وعي منه أو عن غير وعي بنتائج وعواقب هذا التحول، لدرجة أنه كثيرا ما يطرح السؤال عما إذا كان لا يزال بالإمكان الحديث عن الطبيعة، باستثناء بعض أجزاء من الأرض التي لا تزال في مأمن من تأثير الأنشطة البشرية. ولذلك من الضروري - وهذه هي فلسفة التنمية المستدامة - التوفيق بين التنمية وحماية البيئة، حيث يتم تلبية احتياجات الأجيال القادمة. هذه الاحتياجات هي الموارد، غلاف جوي، والماء غير ملوث، والبيئة الطبيعية، وجودة الحياة. والحال أن التراث هو جزء من "جودة الحياة".
تكامل طبيعي ثقافي
وتخلص الدراسة إلى التأكيد على أن المحافظة على التراث تشمل كلا من المواقع والمعالم الأثرية، ما يجعلها أكثر انسجاما مع التخطيط والحفاظ على البيئة في مجموعها. وعلى هذا النحو، فإنه عمليا، من الصعب جدا، حسب المختصين، فصل البيئة "الطبيعية" عن البيئة "الثقافية". ومن هذه الدروس أن مجتمع المعلومات يُحدث ثورة في السوق، والعمل والهُوية؛ فمن ناحية، إن المعايير العالمية تهدد التنوع الثقافي، ناهيك عن أن إغراء العالم الافتراضي يمكن أن يؤدي بنا إلى رفض الحاجة إلى رصد الميزانيات لحماية العناصر التراثية الحقيقية، مثل المباني والمناظر الطبيعية أو المواقع. ومن ناحية أخرى، فإن مجتمع المعلومات يوجد فرصا لتعزيز التراث الثقافي، لأن هناك سوقا جديدة للمعلومات والمعطيات والمهارات؛ فسهولة الوصول إلى المعلومات حول التراث قد تشجع الجماعات الجديدة، الأكثر شبابا، على المشاركة في المشاريع المتعلقة بالماضي. فإذا كانت المعرفة مرادفا للقوة، فإن المجتمعات التي تمتلك قدرا أوسع من المعطيات عن ماضيها قد تبدي استعدادا أوسع للمشاركة بفعالية أكبر في مناقشات حول تطوير مناطقها، أو الدفاع عن المعالم التي تكتسي أهمية بالنسبة إليها.