التعليم والتدريب العقاري
من الواضح أن هناك رغبة وحاجة ملحة لتغيير وضع السوق العقارية، وذلك واضح على الصعيد الرسمي، كما أنه مطلب ملح على المستوى الشعبي؛ لما يعانيه من مشكلات تتعلق بسوق العقار السكني، ومن أول الأهداف الاستراتيجية التي تبنتها وزارة الإسكان, تحسين أداء القطاع العقاري، ورفع مساهمته في الناتج المحلي، وتظهر وثيقة التحول الوطني أهم المؤشرات لتوجه السوق نحو الإنتاجية والابتكار والتطوير لإيجاد الحلول المناسبة للقطاعين السكني والتجاري على حد سواء، لكن هذا التطوير والتحسين لن يأتي ونحن نعمل بالأساليب والأدوات والعقليات السابقة نفسها، لذلك تأتي هنا أهمية تأهيل وتدريب العقول وصقل الأفكار التي تقود دفة القطاع نحو التطوير والإنتاجية، وبلا شك فإن التعليم والتدريب المهني يأتيان في مقدمة الحلول التي تسهم في تغيير المفاهيم، ورفع مستوى الوعي، وتزويد العاملين في القطاع العقاري بالأدوات الفكرية والعملية، لتكون وجهة المستثمرين والمطورين والجهات التنظيمية واحدة، ولتعمل بشكل متجانس لتحقيق أهداف السوق العقارية والارتقاء بها.
لم تصل الدول المتقدمة إلى ما هي عليه الآن إلا لأنها صنعت في مؤسساتها التعليمية عقولا تعشق التحدي والابتكار، وربطتها بالواقع العملي، كما هيأت المؤسسات الحكومية والخاصة كذلك بيئة صحية لاستقطاب هذه العقول وتنمية مواهبها، وجعلت لصاحب المبادرة والإبداع مكانة خاصة ليزيد من عطائه ويبذل أكثر لمصلحته ومصلحة مجتمعه ووطنه، وينص الهدف الاستراتيجي السادس لوزارة التعليم على تعزيز قدرة نظام التعليم على تلبية متطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل، وهذا بلا شك لن يتحقق إلا بربط التعليم بواقع السوق العملي، وعرض حالات واقعية وعملية من قبل المحاضرين والأساتذة، وكذلك تبني المشاريع التي تنمي مهارات حل المشكلات والتحليل النقدي، وهذا لن يحصل إلا بتبني من يعرفون بالأكاديميين المحترفين “Pracadimic”، وهو مصطلح بدأ استخدامه منذ السبعينيات الميلادية، وهو يجمع بين كلمتي Professional وAcademic، اللتين تعنيان باختصار الأكاديمي الذي لديه تأهيل علمي، وكذلك خبرة مهنية احترافية في مجاله، وقد درست شخصيا في برنامج الماجستير في التمويل والاستثمار العقاري على أيدي بعضهم، وكانت من أمتع المحاضرات التي حضرتها، ولا أنسى مايكل ليستر الذي كان يبحر بنا بأمثلة عملية عايشها بنفسه طوال 35 عاما في كبريات الشركات المالية في مجال التمويل والاستثمار في سوق لندن العقارية، حتى أن الساعات الثلاث لا تكاد تكفي القصص والأمثلة التي يطرحها، ويذكر لنا تفاصيل المشاريع والتجارب التي مرت عليه، وأسباب النجاح والفشل لكل منها، وكيفية التأكد من نجاح مشاريع التطوير والاستثمار العقاري، وفي المقابل كيفية تجنب التجارب الفاشلة، وذلك بخطوات عملية تستند إلى أدلة علمية ومعاشرة لصيقة للمجال، وكذلك لا أنسى تلكم الجولة التي قمنا بها كجزء من البرنامج في ربوع مدينة لندن، وكانت جولة سياحية عقارية بامتياز، حيث استعرضنا تاريخ لندن عقاريا، وأبرز التغيرات التي حصلت في السوق منذ الثمانينيات حتى الآن، فكان يشير إلى ذلك المبنى الذي تعثر بسبب دورة السوق العقارية في بداية التسعينيات، ويشير إلى البرج الذي شارك في إعداد دراسته الاستثمارية والتمويلية، وكيف أن خطأ حسابيا بسيطا كاد أن يؤدي إلى كارثة في حسابات المشروع وجدواه، وهكذا كانت التجارب المستندة إلى خبرة عملية وتعليم أكاديمي يثري النقاشات ويحفز المتلقي ويضع الصورة واضحة أمامه لما يمكن أن يواجهه في حياته العملية بعد الانتهاء من برنامجه التعليمي.
الخلاصة، هناك توجه ممتاز في سوقنا السعودية لطرح برامج دراسية في المجال العقاري، وذلك للحاجة الماسة إلى تأهيل المتخصصين والمهنيين في المجال، الذين سيكون على عاتقهم تحقيق التطلعات المستقبلية للسوق العقارية، لكن أود الإشارة إلى أهمية أن يكون المحاضرون من ذوي الكفاءة المهنية والعلمية، ولا نكتفي فقط بإحداهما قدر المستطاع، كذلك لا بد من وجود برامج مرنة تراعي من هو على رأس العمل بحيث يتم تقديم المحاضرات في الفترة المسائية مثلا وكذلك إتاحة خيار الدراسة عن بعد عن طريق وسائل الاتصال التي تطورت تطورا باهرا في الفترات الأخيرة، وأصبحت أرقى جامعات العالم تتبناها، ولا بد من ربط هذه البرامج بالواقع العملي وتحفيز المنضمين لها على عمل مشاريع ودراسات مرتبطة بمجالات عقارية مطلوبة في السوق السعودية، ومحاولة إثراء البحث العلمي في المجال العقاري، ونشر هذه الدراسات بدلا من وضعها حبيسة الأدراج والرفوف، وهذا يتطلب بلا شك جهدا ووقتا، ولا أعتقد أننا سنصل إلى هذه المرحلة بسهولة، لكن يجب أن نجعل الرؤية للتعليم العقاري واضحة، ونجتهد للمضي نحوها بكل ما أوتينا من قوة لتحقق أهدافها في توفير فرص العمل، وترتقي بالمجال العقاري، وترفع من مساهمته الاقتصادية.