تحقيق: آخر ايام النول وبسط المد العربي في اريحا السورية
يقف ابو محمد خلف آلة النول الخشبي ليحيك آخر بساط من المد العربي، بعدما بات المشغل الاخير الذي كان لا يزال يعمل في مدينة اريحا في محافظة ادلب في شمال غرب سوريا، مضطرا لاغلاق ابوابه.
ورث ابو محمد، وهو في الخمسينات من عمره مهنة الحياكة على النول وصناعة الاقمشة التقليدية أبا عن جد. اربعون عاما مرت وهو يعمل في هذه الحرفة التي لم تسلم من تداعيات النزاع جراء النقص في المواد الاولية بشكل اساسي، شانها شأن المنتجات الحرفية التقليدية الاخرى.
ويقول ابو محمد وهو يحتسي الشاي مع العاملين في المشغل محاطا بسجاد مصنوع بخيطان ملونة لا سيما بالاحمر والاسود والابيض وحتى الازرق "المصلحة باتت ميتة (...) اليوم آخر يوم عمل على النول ولم يعد لدينا خيوط". ويضيف "ليس بمقدورنا الذهاب الى حلب لشراء الخيوط، فالطرق مقطوعة و(المدينة) محاصرة، لا احد قادر على ارسال شيء ولا نحن قادرون على الذهاب".
قبل اندلاع النزاع، شكلت حلب التي لطالما اعتبرت مدينة النسيج في سوريا واشتهرت منتجاتها حول العالم، المصدر الاساسي للخيوط الضرورية لانتاج المد العربي.
واذا كان النزاع في سوريا قبل اكثر من خمس سنوات قد زاد من صعوبة حصول مشاغل اريحا على الخيوط المطلوبة ورفع من كلفتها، فان حصار قوات النظام المطبق للاحياء الشرقية في حلب جعل امكانية التزود بها امرا مستحيلا.
ويوضح ابو محمد "منطقة اريحا في محافظة ادلب هي الاشهر في هذه الصناعة، في السابق (قبل الحرب) كان هناك اكثر من مئة نول، اما اليوم فليس هناك سوى ما هو موجود في هذا المحل" اي خمسة انوال.
ومنذ بدء حصار احياء حلب الشرقية في تموز/يوليو، بدأ العمال يتوقفون تدريجيا عن العمل على الانوال الخمسة التي كانت لا تزال موجودة في اريحا.
في المشغل، لا يقطع صوت الدف الخشبي الذي يدق به القماش على النول الا غناء ابو محمد لاغنية تقليدية ذات ايقاع حزين، او حديثه مع العمال الذين يشرف عليهم، او الاستراحة لتناول الشاي.
وفي اليوم الاخير من العمل، لم يكن في المشغل الا ثلاثة انوال مدت عليها خيوط بيض. ويقف خلف كل منها عامل يمسك بالمكوك الذي وضعت فيه خيوط ملونة، يمررها بين الخيوط البيض لتخرج من تحت يده قماشا ملونا.
يرفع ابو محمد صندوقا صغيرا يحتوي على بضع لفافات من الخيوط الملونة ويقول "هذا كل ما تبقى لنا".
ويوضح كيف "كانت المصلحة شغالة قبل الحرب.. وكانت الخيوط تُشرى +بتراب المصاري+ من حلب، اما اليوم فقد وصل سعر كيلو الدرالون، (وهو خيط من القطن والبوليستر يستخدم في تصنيع المد العربي)، الى 3500 ليرة سورية (...) مقابل 175 ليرة فقط في السابق".
يشير ابو محمد باصبعه الى سجادة معلقة على الحائط، ويقول هذه "كانت بحاجة في السابق الى 200 ليرة فقط لانتاجها"، اي حوالي 4 دولارات قبل الحرب.
ورغم انه من الممكن شراء الخيوط اللازمة من الأحياء الغربية في مدينة حلب، الا ان الكلفة مرتفعة كثيرا مقارنة مع الاحياء الشرقية، وفق ابو محمد، الذي يشدد على انه "لو كان طريق حلب مفتوحا، لكانت تيسرت امورنا".
يتحدث ابو محمد وزميله ابو مصطفى بفخر عن حرفة قضوا عقودا في العمل فيها وتطويرها.
ويروي ابو مصطفى وهو يقف وراء النول ويحرك قدميه على مكبحيه الخشبيين، قبل ان تنشغل يداه بنسج الخيوط، "بدأت العمل بها منذ كنت في الصف السابع".
بعد اندلاع النزاع في العام 2011، حاول ابو مصطفى تغيير مهنته بعد تدني قيمة الاجور، الا انه لم يأنس لاي مهنة كما النول.
ويقول "ذهبت الى لبنان حيث عملت في مجال البناء، ثم الى تركيا حيث بقيت بضعة اشهر، لكنني لم استطع الاستمرار في أي عمل بعيدا عن النول".
بفخر، يتحدث ابو محمد عن المنتجات العديدة التي اعتادوا على انتاجها. ويقول بثقة "لا احد غيرنا هنا ينتج (على النول) القطع التي نصنعها. تراها وكأنها مطبوعة، اتحدى ان يصّنع كومبيوتر مثلها".
يعود بالذاكرة الى تاريخ صناعة المد العربي ويوضح "في البداية كانوا يستخدمون خيطان الثياب الصوفية المستعملة، يلفونها على شكل طابات (يمدونها على النول) ويصنعون منها بسطا".
ويضيف "اما اليوم فبتنا نركز على المخمل والدرالون علماً أن النول يعمل على جميع انواع الخيطان".
قبل اقفاله، تنوعت انتاجات المشغل كما يشرح ابو محمد من "كل ما يلزم المنازل من مد (سجاد) للغرف ومحافظ للقرآن واغطية للكرويتي (مصطبة من حجر) وبيوت للفرش والمخدات، وتطور الامر لنصنع المد العربي الكامل للجدران والكراسي (...) وبتنا نفرش بيوتا كاملة".
وكانت اريحا تصدر منتجاتها من المد العربي المصنع على النول الى مناطق عدة داخل سوريا منها مناطق خاضعة لسيطرة قوات النظام مثل دمشق وحماة، ولكن ايضا الى خارج البلاد وخصوصا لبنان والسعودية.
وباتت البضائع اليوم تحتاج الى شهرين او ثلاثة لتصل الى وجهتها، سواء داخل سوريا او خارجها، عدا عن كلفة الشحن المرتفعة.
ويقول ابو محمد "في السابق كنا نرسل البضاعة إلى الشام مثلا عند الساعة العاشرة صباحا فتصل عند الثانية ظهرا".
لن يتوقف انتاج المد العربي، يؤكد ابو محمد، لو توفرت الخيطان "لشغلنا مئة نول، فالنول جاهز بمجرد ان يتوفر الخيط". ويأسف هذا الرجل الذي قضى حياته خلف النول ويقول "حرام ان تكون هذه نهاية من يقوم بهذا العمل وينتج هذا الانتاج".