بوادر حرب تجارية بين لندن وبروكسل .. وتلويح بعصا خفض ضرائب الشركات
وسط الضجيج الإعلامي والسياسي الذي أثاره إعلان رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي بأن بلادها ستخرج من السوق الأوروبية الموحدة لتفرض ضوابط على وصول المهاجرين من الاتحاد الأوروبي، غاب الاهتمام بتصريحات اثنين من أهم الوزراء البريطانيين، اللذين سيقع على عاتقهما التعامل مع التفاصيل الدقيقة لكيفية الانفصال عن التكتل، ألا وهما بوريس جونسون وزير الخارجية أحد أبطال معسكر الخروج من الاتحاد، وفيليب هاموند وزير المالية الذي كان يؤيد سابقا البقاء وحينها كان وزيرا للدفاع.
فبعد أن حددت ماي في خطابها الاستراتيجية العامة للرؤية المستقبلية بشأن علاقتها مع النادي الأوروبي، أصبح على وزراء حكومتها إدارة التفاصيل الخاصة بتلك الاستراتيجية، وفي مقدمة هؤلاء بالطبع وزيرا الخارجية والمالية.
أولى المفاجآت جاءت من وزير الخارجية، الذي كشف عن أن "البلدان الأخرى تقف الآن في طابور لتوقيع اتفاقيات تجارية مع بريطانيا بمجرد مغادراتها الاتحاد الأوروبي".
وكان هذا الإعلان بمنزلة مفاجأة للجميع ليس لكونه الأول من نوعه بل أيضا يتناقض مع تصريحات للرئيس الأمريكي باراك أوباما على سبيل المثال بأن توقيع اتفاقية تجارة حرة مع بريطانيا قد يستغرق مفاوضات تصل إلى عشرة أعوام، أو ما بات معروفا للجميع الآن بأن الصين لا تبدو غير مندفعة لتوقيع مثل تلك الاتفاقية، أو حتى الملاحظات التي أبداها بعض الخبراء البريطانيين بأن بلدان مجلس التعاون الخليجي قد تعمل على تعظيم منافعها من اتفاقية التجارة الحرة على حساب بريطانيا في ظل شعورها بحاجة لندن إلى مثل تلك الاتفاقية.
ويقول لـ "الاقتصادية"، الدكتور روبرت نيل أستاذ الاقتصاد الأوروبي في جامعة أكسفورد، إن تصريحات جونسون تأتي في إطار استراتيجية تريزا ماي التي حذرت الأوروبيين من التفكير في معاقبة المملكة المتحدة لاختيارها الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وأضاف نيل أنه على الرغم من أن الوزير البريطاني لم يفصح عن تفاصيل البلدان الراغبة في توقيع تلك الاتفاقيات، فلا شك أن بريطانيا وما تمتلكه من قدرات اقتصادية وخبرات تكنولوجيا تشجع على التعاون التجاري والاستثماري معها، ويمثل عنصر جذب العديد من الاقتصادات الآسيوية والإفريقية والأسواق الناشئة.
لكن إذا كانت تصريحات بوريس جونسون تمثل رسالة لتطمين المواطن البريطاني، بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، لا يعني أن لندن ستقف في وجه عواصف الاقتصاد الدولي وحيدة، وهو ما يتفق مع تحركاته الدبلوماسية التي تضمنت زيارة سريعة إلى واشنطن خلال الأيام الماضية التقى خلالها بعدد من كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية الجديدة، الذين أكدوا له بأن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب، يرى أن توقيع اتفاقية للتبادل التجاري الحر بين البلدين سيصب في مصلحة تعزيز التعاون الاقتصادي بين لندن وواشنطن، فإن الجانب الآخر من الصورة تمثل في تصريحات وزير المالية فيليب هاموند الذي بدا أكثر عنفا وتهديدا لأوروبا بأن تعاود التفكير إذا كانت تخط لمعاقبة بريطانيا اقتصاديا.
وتنسجم تصريحات وزير المالية البريطاني تماما مع بعض المقاطع من خطاب تيريزا ماي، بل تحمل نبرة أكثر عدائية وعنفا تجاه أوروبا، إذ أدلى هاموند بتصريحات لإحدى الصحف الألمانية أشار فيها إلى أن بريطانيا يمكنها تحويل اقتصادها إلى ملاذ آمن للشركات بخفض الضرائب عليها مقارنة ببلدان الاتحاد الأوروبي، وذلك إذا رفض الأوروبيون منح لندن حق تصدير منتجاتها إليهم، وفرضوا عليها رسوما جمركية مرتفعة.
ومع هذا، يعتقد بعض المختصين ومن بينهم آرثر ديفيد الخبير الاستثماري أن هذا الخطاب لا يتسم بالواقعية، موضحا أن لجوء بريطانيا إلى خفض حاد للضرائب على الشركات يعد بمنزلة حرب تجارية مع أوروبا، خاصة مع الكتل الاقتصادية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
ويرى ديفيد أنه من المؤكد أن الجانب الأوروبي لن يقف صامتا إذ سيعمل في المقابل على تحدي المكانة المميزة لبريطانيا باعتبارها عاصمة المال والأعمال في العالم، وعلى الرغم من أن تحدي تلك المكانة سيكون صعبا وعسيرا، لكن يمكن أن تقدم أوروبا امتيازات ضخمة للغاية للقطاع المصرفي البريطاني، بما يمثل عامل جذب لمغادرة لندن، ولا شك أن تأثير ذلك إن حدث سيكون وخيما للغاية على الاقتصاد البريطاني ككل.
وبالفعل فقد حذر رئيس مجلس إدارة بنك "إتس إس بي سي" من احتمالية أن تغادر بريطانيا مجموعة من البنوك التي تولد تقريبا نحو 20 في المائة من العوائد المصرفية، كما أن مجموعة لويدز للتأمين أعلنت بشكل واضح أنها ستنقل جزءا من خدماتها إلى القارة الأوروبية وذلك في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ومع هذا، فإن سعي بريطانيا للطلاق من أوروبا - اقتصاديا على الأقل - لا يبدو أنه سيمر مرور الكرام داخليا، فالإشادة الإعلامية باستراتيجية تيريزا ماي للانفصال، لا تعني أن الجميع يقف داعما لتلك الاستراتيجية، فالوزيرة الأولى في اسكتلندا نيكولا ستيرجن حذرت من أن الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي بمنزلة "كارثة اقتصادية" على حد تعبيرها، مهددة بأن مسؤوليتها في الدفاع عن مصالح اسكتلندا، قد تدفعها للمطالبة بإجراء استفتاء دستوري جديد يحدد به الاسكتلنديون مصيرهم بالبقاء أو الخروج من المملكة المتحدة.
وأوضحت لـ "الاقتصادية"، أليس هانتر الباحثة الاقتصادية، أنه يصعب توقع أن تقبل الحكومة البريطانية بعقد استفتاء آخر بشأن استقلال اسكتلندا، كما أن الرأي العام الاسكتلندي وعلى الرغم من تصويته لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، لا يميل في الوقت الراهن لطلب الاستقلال عن بريطانيا، ومع هذا فإن موقف الوزيرة الأولى في اسكتلندا يكشف للأوروبيين أن بريطانيا ستخوض مفاوضاتها معهم وجبهتها الداخلية غير موحدة، وهذا سيمكنهم إلى حد ما من ممارسة ضغط على المفاوض البريطاني.
إلا أن تلك المخاوف لا تلقى تأييدا كبيرا من بعض الخبراء في مجال العملات، ويرى ديفيد نيل الخبير الاستراتيجي في مجال أسعار صرف العملات، أن التحسن النسبي في سعر صرف الاسترليني في أعقاب خطاب رئيسة الوزراء البريطانية بشأن استراتيجيتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، يعكس ثقة الأسواق ليس فقط في منطقية الاستراتيجية البريطانية، بل بقدرة الاقتصاد البريطاني على التعامل مع جميع التحديات التي يمكن أن تنجم خلال فترة التفاوض مع الأوروبيين، أو حتى بعد الطلاق إذا ما قررت بروكسل اتخاذ مواقف متصلبة تجاه بريطانيا.
ويتفق هذا التحليل في جزء منه مع تقديرات مؤسسات مالية دولية في مقدمتها صندوق النقد الدولي بشأن الأداء المتوقع للاقتصاد البريطاني، ففي أعقاب خطاب رئيسة الوزراء رفع البنك تقديره لمعدل النمو البريطاني هذا العام من 1.1 في المائة إلى 1.7 في المائة، وفي المقابل خفض توقعاته بشأن العام المقبل من 1.7 في المائة إلى 1.4 في المائة.
ويعتقد الدكتور روبرت جنيور أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن أن التوقع السلبي لأداء الاقتصاد البريطاني عام 2018 يعود إلى عدد من العوامل لا يتحملها الاقتصاد البريطاني بمفردة.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، أنه من المرجح أن صندوق النقد سيعتبر أن طريق الانفصال بين بريطانيا وأوروبا سيكون مملوءا بالعثرات ولن يكون سلسا، خاصة أن المفاوضات تأتي في وقت يشهد فيه مستقبل الاقتصاد العالمي ككل ضبابية نتيجة وصول ترمب إلى سدة السلطة في البيت الأبيض الأمريكي، ومن ثم فإن توقع الصندوق بتراجع الأداء الاقتصادي البريطاني العام المقبل، يعود إلى أن ذلك العام هو الذي ستتضح فيه إلى حد كبير الشروط الذي سيضعها الجانب البريطاني والأوروبي للطلاق بأقل خسارة ممكنة للجانبين.
ووسط تلك التوقعات يظل البعض أكثر اهتماما بمستقبل الاستثمارات الأجنبية في بريطانيا خاصة بعد أن أوضحت تريزا ماي استراتيجية حكوماتها للانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
آندرو كير الخبير الاستثماري في بنك لويدز، يعتقد أن تجربة بريطانيا في جذب الاستثمارات الأجنبية بعد استفتاء الخروج الأوروبي يكشف بوضوح أن المفاوضات مع الأوروبيين أو نتائجها لن تؤثر على قدرة الاقتصاد البريطاني في أن يكون قبلة عالمية للراغبين في الاستثمار.
ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه منذ تصويت الناخبين في بريطانيا لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي فإن إجمالي الاستثمارات الأجنبية بلغ 16.3 مليار جنيه استرليني، وهذا مؤشر لا جدال فيه عن ثقة المستثمرين في اقتصادنا، ووفقا للبيانات الحكومية فإن الاستثمارات الرأسمالية الأجنبية التي وافقت عليها الحكومة تتجاوز توقعات الحكومة البريطانية.
وأشار كير إلى أن هذا التطور حدث ونحن لا نزال مقيدين بالعوائق والتدابير والإجراءات الإدارية التي يضعها الاتحاد الأوروبي، ولا شك أنه عندما نتحرر منها ستقفز الاستثمارات الأجنبية إلى معدلات غير مسبوقة.