أستاذ النعيمي في الماجستير: ليس مجرد طالب مجتهد بل شخصية ساحرة أيضا
تابعت ومجموعة من الأصدقاء في مقهى جداوي عتيق عبر تطبيق "بيرسكوب" على موقع "تويتر" البث المباشر لمحاضرة المهندس علي النعيمي وزير البترول السابق، في برنامج "تجربتي" في غرفة الشرقية. وبعد نهاية اللقاء تداول الأصدقاء في نادي سراج للقراءة النقاش حول كتاب النعيمي "خارج الصحراء.. رحلتي من البدو الرحّل إلى قلب النفط العالمي" عن "دار بنجوين"، ونقلته إلى العربية "الدار العربية للعلوم ناشرون" في ترجمة متواضعة أسقطت عنوان الكتاب الأصلي، ونشر تحت عنوان "من البادية إلى عالم النفط".
كتاب النعيمي يقدم نظرة إجمالية عن السياسة النفطية للسعودية أثناء توليه منصب الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو العملاقة بين الأعوام 1984 و1995، ثم وزيرا للنفط في المملكة من 1995م حتى 2016م.
سيرة مدهشة عاصر فيها النعيمي محطات مهمة في تاريخ «أرامكو» وأحداث جسيمة منذ تأسيسها حتى جرى تأميمها، مثل العدوان الثلاثي وحرب أكتوبر، ومساهمة «أرامكو» في مكافحة تلوث مياه الخليج العربي أثناء غزو الكويت.
كان المهندس علي النعيمي يفكر في التقاعد بعد قضاء خمسين عاما من العمل في «أرامكو»، وذهب في إجازته السنوية لصيد سمك السلمون في ألاسكا النائية شمال أمريكا منتصف التسعينيات الميلادية عندما وصله خبر تعيينه وزيرا للبترول عبر مكالمة هاتفية مع الشيخ إبراهيم العنقري مستشار الملك فهد السابق الذي طلب منه العودة سريعا لحضور مراسم التنصيب الوزاري في جدة. يذكر النعيمي في كتابه تفاصيل تعيينه عندما قابل الملك عبدالله رحمه الله: قال لي جملة لا أنساها ما حييت، "ياعلي، لا تخش أي مسؤول، ولا تخش إلا الله".
يقول النعيمي: فحرصت على اتباع الحق والعمل لصالح المملكة، والمساهمة في تنمية الوطن، ومسيرة التقدم والانطلاق، مضيفا "لم يتمكن كرسي الوزارة من تغييري، وكنت نفس الشخص حين يرتدي بشت الوزير أو حين يضعه".
عاد النعيمي للعمل الحكومي بعد تجربة سابقة لم تدم سوى ثلاثة أيام مع وزارة الزراعة بعد عودته من أمريكا بداية الستينيات الميلادية، مع أنه كان ينال مرتبا قدره 3 آلاف ريال، بينما كان يتقاضى في شركة أرامكو 1600 ريال فقط، وجد أن هناك فارقا كبيرا بين العمل في شركة أرامكو والعمل في وزارة الزراعة، فضل بعدها العودة للعمل مع «أرامكو» لمتابعة تحقيق حلمه منذ الصغر بأن يكون على قمة الهرم الإداري للشركة العملاقة، ويصبح خلال عقدين من الزمان أقوى رجل في عالم الطاقة، وصاحب الكلمة الأخيرة الذي يركض خلفه الصحافيون للفوز بتصريح قادر على إنعاش حركة سوق النفط.
رحلة كفاح
يذكر النعيمي أسباب تأليف الكتاب بقوله: يرحل أبناء جيلي دون أن يعرف أحفادهم المشغولون بهواتفهم الذكية كيف عاش أجدادهم، فحياتنا في البادية تحت شمس الصحراء غريبة عليهم، وأضع هنا حكاية فتى من البادية نشأ في عالم متلاطم الأمواج، فصاغت جوانب من شخصيتي التي كان لها - بعد توفيق الله – عظيم الأثر في نجاح مسيرتي المهنية.
يروي النعيمي ذكرياته عن طفولته حافي القدمين في البادية في الفصل الأول من الكتاب، النعيمي الذي ولد عام 1935م في قرية الراكة التابعة لمدينة الخبر، عاش في صحراء الصمان مع أمه من قبيلة العجمان حتى التاسعة، يرعى الأغنام في مضارب القبيلة، ويتذكر حادثة غريبة عندما طلب منه خاله في أحد الأيام مرافقته لاصطياد ذئب فتك بأغنامهم، "انطلقنا مع خالي نقتفي أثر الذئب حتى وصلنا إلى دحل غائر، فجمع بعض فروع الشجر المتناثر حولنا ووضعها على المدخل، وطلب منا الانتظار بينما ذهب داخل الدحل لقتل الذئب ببندقيته القديمة، بعد لحظات سمعنا دوى الطلقة، وخرج خالي يجر وراءه ذئبا كبيرا، وقال لنا إن أكل لحم الذئب سوف يجعلنا شجعان، فأكلت من لحمه بلا تردد، و ما زلت أتذكر طعمه المالح في فمي". يصف تلك المرحلة بشجن وحنين بقوله: "لا تزال بيوت الشعر في مخيلتي تتجاور منتصبة على الرمال. لقد عشنا حياة شبه معزولة عن المدنية والحضارة. لقد كانت كتبنا هي الشمس الحارقة والقمر المنير والنجوم المتلألئة وكانت مدارسنا مجالس السمر حول النار. لم نشتك من الفقر ولا مرارة العيش. أصابتنا أمراض كثيرة نتيجة نقص الأدوية، لكني كنت محظوظا لأني شهدت بداية النهضة وتباشير الازدهار".
ينتقل بعد ذلك للعيش مع والده الذي كان يعمل في صيد اللؤلؤ من مياه الخليج، لكنه أصبح عاطلا بعد انهيار تجارة اللؤلؤ بسبب الكساد واكتشاف اللؤلؤ الصناعي في اليابان، "فتحول كثير من أبناء القبائل الذين عملوا في صيد اللؤلؤ إلى صناعة النفط الناشئة حديثا في الشرقية، وانتقلوا من مراكب الصيد للعمل في حقول النفط" بعد منح الملك عبد العزيز شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» "سوكال" امتياز التنقيب عن النفط عام 1933م.
يسرد النعيمي في تشويق بالغ حكاية اكتشاف النفط، وتأثره تلك الأيام بشخصية خميس بن رمثان الذي تحول إلى أسطورة بفضل شجاعته ومهارته في اقتفاء الأثر وتجواله في الصحراء بلا بوصلة أو أجهزة مساحية، واقتران اسمه مع الأمريكي ماكس ستاينسكي كبير الجيولوجيون في «أرامكو» الذي اكتشف موقع "بئر الخير" التي بدأ ضخ الذهب الأسود منها بكميات تجارية في 4 من شهر مارس عام 1938م.
وفي الأول من شهر مايو عام 1939م، فتح الملك عبدالعزيز بيده الصمام الذي ضخ أول شحنة نفط سعودي إلى الناقلة الراسية في مرفأ رأس تنورة، لاحقا أطلقت «أرامكو» اسم (رمثان) على أحد حقول النفط تكريما لذكرى خميس بن رمثان الذي وافته المنية عام 1959م.
في سن الحادية عشرة بدأ النعيمي عمله في «أرامكو» ساعيا يحمل الأوراق من مكتب إلى آخر لا يتجاوز مرتبه ثلاثة ريالات، بدلا من أخيه عبدالله الذي توفي بسبب التهاب رئوي، والتحق بمدرسة الجبل أول مدرسة أسستها «أرامكو» في منطقة تدعى "سعودي كامب" في بيت متواضع في الخبر، "أعترف بأن أحلامي كانت كبيرة بالنسبة لطفل صغير، وحين سألنا معلمنا عما نريد أن نكون في المستقبل، جاءت أغلب الإجابات نمطية مثل رجل إطفاء أو مشرف على الحفر، لكني فاجأت الجميع قائلا «أريد أن أصبح رئيس شركة أرامكو»". تنوعت اهتماماته وظهرت براعته في كل المهام الموكلة إليه، لذلك اختير ضمن خمسة طلاب سعوديين لإكمال الثانوية والتحضير للدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت صيف 1953م وبعد تفوقه تم إرساله مع أول مجموعة من الطلاب السعوديين الذين ترسلهم «أرامكو» للدراسة في الولايات المتحدة لدراسة الجيولوجيا في جامعة لاهاي 1959م وحصل على الماجستير من جامعة ستانفورد عام 1961م. كتب الدكتور ديفس المشرف عليه في برنامج الماجستير رسالة لـ «أرامكو» يقول فيها: "لقد أثار إعجابنا جميعا. فهو ليس مجرد طالب مجتهد، بل شخصية ساحرة أيضا".
يعود بعدها للعمل جيولوجيا في قسم التنقيب والإنتاج، ونطالع في الكتاب شهادته على محطات تاريخية مثل مظاهرة طلاب كلية البترول والمعادن ما يعرف باسم «أربعاء الحجارة» احتجاجا على العدوان الثلاثي حرب 1967. وأزمة حظر تصدير النفط خلال حرب 1973 للغرب في عهد الملك فيصل، وبداية تأميم «أرامكو» التي كانت تملك الحكومة السعودية فيها حصة لا تتجاوز 25 في المائة.
تدرج النعيمي في المناصب حتى أصبح مدير إنتاج المنطقة الشمالية، بصفته أول مواطن سعودي يتولى هذا المنصب، وأصبح نائباً لرئيس «أرامكو» عام 1975، وشهدت المنطقة أجواء ساخنة نتيجة الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتحولت ملكية «أرامكو» بالكامل إلى الحكومة السعودية في 1980 مع انتخابه عضوا في مجلس إدارة «أرامكو»، وتم تعيينه في منصب رئيس الشركة عام 1984م.
حديث النعيمي لا يخلو من الصراحة في انتقاده للوزير السابق أحمد زكي يماني كونه ليس خبيرا في صناعة النفط، وأخطأ عند قبوله دور "المنتج المرجح" بعد التوافق على هذا الدور في اجتماع «أوبك» في مايو 1983م وبالتالي أدى إلى تقليص الإنتاج لدعم الأسعار وخسارة الإيرادات والحصة السوقية معا، مع الاعتراف بفضله في التفاوض لنقل ملكية شركة أرامكو، موضحا الأسباب التي أدت إلى إقالة يماني بسبب مساعي شركة بترومين للاستحواذ على «أرامكو» في عام 1986م، النعيمي رفض السماح لـ «بترومين» بهذه الخطوة وهدد بالاستقالة ص135.
تكررت نفس النزاعات مع شركة سمارك ذراع التكرير في شركة بترومين في التسعينيات، لكن هذه المرة تم ضمها إلى «أرامكو» بموجب مرسوم ملكي، وأصبحت شركة أرامكو كيانا كبيرا يضم عمليات المنبع (التنقيب والإنتاج) وعمليات المصب (التسويق والتكرير) .
معارك «أوبك»
يرى النعيمي أن أسباب الأزمة النفطية تأتي دائما من خارج منظمة "أوبك"، إذ إن ارتفاع أسعار البترول أطلق موجة الاستثمار في حقول النفط غير الاقتصادية أو النفط الصخري في الولايات المتحدة، وهذه الإمدادات الجديدة كانت السبب الرئيس في هبوط أسعار النفط بشكل حاد عام 2014م من 147 دولارا للبرميل حتى وصل إلى 27 دولارا.
كان ضروريا مشاركة الجميع في إعادة تسعير السلعة الأكثر أهمية في العالم من أجل المستقبل، خاصة الدول خارج أوبك للمساهمة في تخفيض الفائض، وتوقف السعودية عن القيام بدور "المنتج المرجح".
يعتقد النعيمي أنه لا فائدة من خفض الإنتاج دون مشاركة الأعضاء الرئيسيين خارج أوبك مثل روسيا والنرويج والمكسيك، لأن هذا يعني تنازلا عن الحصة السوقية في المستقبل، وخسارة مؤكدة للإيرادات الحالية لأعضاء أوبك. لذلك أفضل طريقة لإعادة الاستقرار إلى سوق النفط وهي عدم التدخل في سياسة الأسعار عبر تخفيض الإنتاج أو زيادته، وترك عملية العرض والطلب تعيد التوازن إلى السوق، والأسعار سوف تتصاعد بشكل طبيعي بعد نهاية الفائض من النفط في الأسواق العالمية.
لكن المشكلة ليست في عملية خفض الإنتاج من أعضاء أوبك، ولكن في عدم الالتزام بسقف محدد للإنتاج من الدول غير الأعضاء في أوبك، لعل أبرزها روسيا، أكبر منتج للنفط في العالم التي تضخ نحو 11 مليون برميل في اليوم الواحد.
النعيمي الذي شغل منصب وزير النفط لمدة 21 عاما حتى تقاعد في مايو الماضي، كان يعرف تماما ما كان يقوم به، وكان متأكدا أثناء مفاوضاته خلال سنواته الأخيرة من استحالة مشاركة الدول خارج منظمة أوبك في عملية تخفيض الإنتاج. يقول النعيمي في كتابه: "فلنترك التاريخ يظهر لنا حكمه حول مدى صحة القرار الذي اتخذناه للدفاع عن الحصة السوقية".
معجزة «شيبة»
"أروع الإنجازات ما كان مستحيلا"، هكذا يتحدث النعيمي عن مفخرة «أرامكو»- حقل شيبة - في الربع الخالي بقوله: "واجهت تحديا حقيقيا من العالم لإثبات قدرة «أرامكو» على تنفيذ مشروع بهذه الضخامة، ولا سيما في أصعب بقاع الأرض لتطوير حقل نفطي، إذ إنه أنجز في وقت قياسي خلال 3 سنوات بتكلفة لم تتجاوز 1.7 مليار دولار، و 90 في المائة من أعضاء الفريق سعوديون".
كانت عروض الشركات العالمية تقدر تكلفة المشروع بـ 5 مليارات دولار، ويستغرق تنفيذه خمس سنوات، يعلق وزير الطاقة خالد الفالح بقوله:" لم يكن الوزير النعيمي بموقفه الراسخ يدافع عن «أرامكو السعودية» وحدها، بل كان يحمي المملكة من استنزاف ثروتها الوطنية في تلك الصفقات".
في فصول الكتاب الأخرى تفاصيل عن المشروع الضخم لبناء جامعة كاوست، وعن جولات النعيمي المكوكية لعقد شراكات مهمة لتكرير البترول في مصافي «أرامكو» حول العالم. وعن رياضة المشي، يقول النعيمي: "ما زلت أمارس الرياضة، وتسلق الجبال مكنني كثيرا من إنهاء اتفاقات نفطية كبرى مع تنفيذيين لكبرى الشركات في كل من كوريا الجنوبية وأمريكا، فقد كنت أمارس معهم الرياضة نفسها، وهذا كان دافعا لي في تعزيز قدراتي النفسية في مواجهة التحديات والصعاب".