وحشية الأسد وطائفية المالكي ورعاية طهران .. ثلاثي «الدعشنة»

وحشية الأسد وطائفية المالكي ورعاية طهران .. ثلاثي «الدعشنة»
وحشية الأسد وطائفية المالكي ورعاية طهران .. ثلاثي «الدعشنة»

"لم ينبثق تنظيم داعش من الفراغ، بل جاء نتيجة القمع الوحشي المتواصل الذي مارسته الحكومة السورية بحق شعبها، والتمييز الطائفي الذي انتهجه رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي. وقد تصرف كلاهما بدعم من إيران".. هذا ما يؤكد عليه "مايكل سينغ" المدير الأسبق لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض في الفترة 2007-2008. في مقال يستعرض فيه جوانب "التغيير" التي لحقت بالشرق الأوسط، وكان قد وعد بها الرئيس السابق باراك أوباما.
يكتب سينغ، المدير الإداري لمعهد واشنطن، يخيل للوهلة الأولى أن الشرق الأوسط الذي يواجهه الرئيس ترمب حالياً يختلف كثيراً عن المنطقة التي واجهها الرئيس باراك أوباما عام 2009. فالانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011 أطاحت بزعماء تونس ومصر واليمن وليبيا، بينما تسببت الحرب الأهلية في سورية في تدمير البلاد وتشريد سكانها، تلك الدولة التي اعتُبرت يوماً ما القلب الدولي النابض للعالم العربي. كما نجح ما يسمى بـ تنظيم «داعش» في اقتطاع أراض من العراق وسورية في بداية اجتياحه لأراضيهما، وأقام شبه دولة إرهابية امتدت بين هذين البلدين، ولكن التنظيم يعاني حالياً تقلصا سريعا في قاعدته. أما عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين فتشهد فترة الجمود الأطول أمداً في تاريخها منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. إضافة إلى ذلك فإن الأزمة النووية الإيرانية التي كانت تتفاقم في السابق بوتيرة متسارعة، توقفت لبرهة من الزمن بفضل مفاوضات «خطة العمل المشتركة الشاملة» - وهذا هو التطور الوحيد من بين هذه الأحداث الذي يرغب أوباما على الأرجح في أن ينال الفضل عليه. إلا أن الأمر الحقيقي في الشرق الأوسط لا يرتبط بمدى التغيير الذي حصل، بل بضآلته إذا ما تعمق المرء بشكل أكبر في دراسة الأوضاع. فعلى العكس مما كان متوقعاً، تفاقم الركود الاقتصادي والسياسي الذي أطلق شرارة الانتفاضات عام 2011. فقد بلغت نسبة بطالة الشباب في العالم العربي 29 في المائة عام 2013، أي أكثر من ضعفَي المتوسط العالمي البالغ 13 في المائة، وأعلى نسبة من أي منطقة أخرى من العالم. وحتى في الوقت الذي تخشى فيه سائر دول العالم من غياب الاستقرار في الشرق الأوسط، يبقى الوضع الاقتصادي وليس الأمني مصدر القلق الأكبر لدى الأغلبية الساحقة من شعوب المنطقة - فوفقاً لدراسة نشرها "الباروميتر العربي" لعام 2014، منح 88 في المائة من السكان في مصر الأولوية للمشاكل الاقتصادية مقارنة بـ 1 في المائة للمخاوف الأمنية.
ولم ينبثق تنظيم «داعش» من الفراغ، بل جاء نتيجة القمع الوحشي المتواصل الذي مارسته الحكومة السورية بحق شعبها، والتمييز الطائفي الذي انتهجه رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي. وقد تصرف كلاهما بدعم من إيران، التي أرسلت قواتها الهجومية لمساندة الحرب التي شنها الرئيس السوري بشار الأسد في بلاده، والتي يهدد دعمها الحالي للميليشيات العراقية بالقضاء على أي مكاسب تُحقَّق ضد تنظيم «داعش» في أماكن مثل الموصل ومحافظة الأنبار. وقد تنامت قوة إيران في المنطقة على الرغم من «خطة العمل المشتركة الشاملة» - أو بسببها كما يُحتمل. وقد امتنعت الولايات المتحدة والقوى الأخرى عن صد مطامع طهران الإقليمية على أمل ضمان التوصل إلى اتفاق نووي، والحفاظ عليه فيما بعد.
أما الدول التي كان وضعها جيداً إلى حد معقول في عام 2008 - على سبيل المثال، الأردن، المغرب، والإمارات العربية المتحدة - فتستمر اليوم في الازدهار على الرغم من الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة، ويُعزى ذلك إلى قيادتها السليمة وإلى التعاون الدولي الصبور والمتحفظ.
ومع ذلك، يمكن القول إن التغيير الأكبر، يتابع سينغ، قد جاء من الخارج، بدءًا من دور الولايات المتحدة. فليس هناك تحالف أمريكي في المنطقة، أصبح في موقف أقوى في عام 2017 مما كان عليه عام 2009. فمن خلال محاولة إدارة أوباما تحويل اهتمامها نحو آسيا، وتخليص نفسها من العراق وتفادي النزاع مع إيران، ومعاناتها من أزمة مالية أدت إلى إعادة توجيه أنظارها نحو القضايا المحلية، فقد أعطت بذلك انطباعاً بالانفصال (أو فك الارتباط). ومن جهة استحقت الولايات المتحدة هذا الانطباع، ولكن من جهة أخرى يفند ذلك انطباع الشراكات الأمنية القوية والمتواصلة مع الحلفاء، الأمر الذي يشكل ميزة مفيدة للرئيس ترمب - وغالباً ما كانت السياسة الأمريكية غير واثقة من نفسها وتدريجية، ولم تعطِ واشنطن لحلفائها الثقة الكافية بأنها تشاركهم نظرتهم إلى التهديدات.
وقد أدى هذا الانفصال الاستراتيجي من قبل الولايات المتحدة إلى إعادة تصميم المشهد الجيوسياسي في المنطقة. فقد قرّب العلاقات بين حلفاء الولايات المتحدة مثل دول الخليج العربية، ودفع هذه البلدان إلى اتباع مذهب جديد من النشاط السياسي والتعددية. ولكن لهذا التعاون حدوده (...) إضافة إلى ذلك، حث الانعزال الأمريكي القوى الخارجية الأخرى على زيادة انخراطها في المنطقة، سواء كان ذلك لدوافع انتهازية أم لمجرد تأمين مصالحها الخاصة. وروسيا هي المثال الأوضح، فتدخلها في سورية أنقذ نظام الأسد من الانهيار. لكن الصين، والدول الأوروبية، وغيرها من البلدان زادت انخراطها في الشرق الأوسط بتكتّم أكبر، مؤذنة بنهاية السيادة الأمريكية التي استمرت بلا منازع لعقود من الزمن في المنطقة. وعندما تقوم الولايات المتحدة ببلورة سياستها الإقليمية، لن يتعين عليها أخذ هذه القوى الأخرى بعين الاعتبار بشكل متزايد فحسب، بل سيتوجب عليها أيضاً إعادة النظر في الافتراضات الأساسية مثل حريتها في التحرك في المجال الجوي والممرات المائية في المنطقة.
ونظراً إلى الصعوبة التي تشتهر بها المنطقة، سيكون من المغري لأي إدارة أمريكية جديدة أن تصرف اهتمامها نحو بقعة أخرى من العالم. لكن الرئيس ترمب تعهّد بإعطاء الأولوية لتحقيق المصالح الأمريكية في سياسته الخارجية، وهذه المصالح هي التي تجر الولايات المتحدة إلى تلك المنطقة. أي المصالح المتعلقة بمكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وضمان التدفق الحر للتجارة والطاقة، على سبيل المثال لا الحصر. وكلما زاد تركيز الرئيس الأمريكي على دعم هذه المصالح، بدلاً من السعي إلى حل النزاعات أو عقد الصفقات لمجرد عقدها، كلما حقق نجاحاً أكبر.
ومن المغري النظر إلى سياسة الشرق الأوسط من منظار "معالجة" مشاكل سورية أو العراق أو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن هذه النزعة لحل المشاكل لا تميل إلى الفشل فحسب، يضيف سينغ. بل إنها تزاحم الاهتمام والموارد التي يمكن تسخيرها لمساعٍ أخرى لا تقل أهمية على المدى الطويل ولكنها أقل شهرة.
ولذلك، مهما بقيت الحرب ضد تنظيم «داعش» جوهرية، هناك ثلاثة تغييرات أخرى يمكن للرئيس ترمب إدخالها على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، التي يمكنها أن تخدم مصالح واشنطن مع مرور الوقت. أولاً، عليه التصرف بحزم للتصدي لإيران، وبذلك لن يسهم في المساعدة على إنهاء الصراعات على نحو مستدام في سورية والعراق واليمن وأماكن أخرى فحسب، بل سيضع الولايات المتحدة مجدداً أيضاً على المسار الاستراتيجي نفسه مع حلفائها الذين يجدون في مطامع إيران الإقليمية التهديد الأكبر لهم. ثانياً، عليه السعي إلى إعادة بناء التحالفات الأمريكية في المنطقة، على ألا يقتصر تركيزه على تحسين العلاقات الثنائية بل يمتد إلى تشكيل مجموعة متعددة الأطراف وذات قدرات ومنافع أكبر، مكونة من الشركاء الإقليميين المتشابهي التفكير.
وأخيراً، يختم سينغ، يجب عليه أن يساعد حلفاء واشنطن على الانخراط في الإصلاحات الاقتصادية والأمنية والسياسية حيثما أبدوا استعداداً لذلك. ولا ينبغي أن يكون الهدف من ذلك تغيير معالمهم ليصبحوا نسخة من صورة الولايات المتحدة، بل لمساعدتهم على اتخاذ الخطوات التي تعود بالفائدة على المصالح المشتركة لكلا الجانبين من خلال جعلهم أكثر قدرة على التكيف مع التهديدات الإقليمية والتجاوب مع شعوبهم. وبعد مرور ثماني سنوات من الانحراف الاستراتيجي الأمريكي، سيكون لدى حلفاء الولايات المتحدة طموحات عالية من الرئيس ترمب. وبدوره، يجب على الرئيس الأمريكي أن يصر على ترقّب الكثير منهم أيضاً.
يذكر أن مايكل سينغ سبق أن عمل مديرا في طاقم "مجلس الأمن القومي" الأمريكي في الفترة 2005-2007. كما شغل منصب مساعد خاص لوزيري الخارجية باول ورايس.

الأكثر قراءة