ثامر الميمان .. قاتل «البلاهة» كي لا يدمى بها الوطن

ثامر الميمان .. قاتل «البلاهة» كي لا يدمى بها الوطن

خسرت الصحافة السعودية الكاتب والشاعر ثامر الميمان صاحب العمود الشهير "رزقي على الله" عن عمر ناهز 66 عاما في مستشفى القوات المسلحة في جدة، وشيعت جنازة الراحل من المسجد الحرام الإثنين الماضي، وتمت مواراة جثمانه الثرى في مقبرة المعلاة. الميمان من مواليد الطائف عام 1951م، ونال بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة عام 1978م، وانطلقت مسيرته مع الصحافه قبل ثلاثة عقود مع صحيفة المدينة، متدرجا من محرر صحفي حتى أصبح مديرا للتحرير ثم عمل بعد ذلك مديرا لشركة تهامة للإعلان والعلاقات العامة والتسويق في المنطقة الشرقية، ورجع إلى مدينة جدة ليعمل مديرا للتنسيق الإعلامي في العلاقات العامة في الخطوط الجوية السعودية، واستمر يكتب عن هموم الناس في عموده الأشهر متنقلا بين صحف متعددة حتى توقف عن الكتابة منتصف عام 2014م، وصدرت له مجموعة من الكتب تضمنت مقالاته وأشعاره، منها: "شخصيات من ذاكرة الوطن"، وأعاد نشر مقالاته في صحيفة الوطن في كتاب "سواليف"، بينما تضمن كتابه "مسموحات ممنوعة" مقالاته المنشوره في صحيفة مكة، كذلك صدرت قصائده الشعبية في ديوانين من القطع الصغير الأول "مجموعة أحزان"، والآخر "فيه شيء غلط". تبدأ مقالات الميمان كوتريات حزينة عن مشاهدات أليمة وتفاصيل منسية من عالم الطبقة الكادحة ثم تعلو كهجاء صارخ بصيغة مهذبة ونبرة ساخرة من تناقضات الواقع المرير، تقرأ مقاله مبتسما ومتألما في نفس الوقت متأثرا بطريقة الكاتب المصري الساخر محمود السعدني في سرد القصص والمفارقات، وهذا النقد الصريح والقاسي ليس مجرد مشاكسة وتحد لسلطة الرقابة، إنما واجب إنساني واستجابة لنداء ضمير الكاتب للتعبير عن أحلام البسطاء وصراعهم اليومي في مواجهة طواحين الفساد وطبول المنافقين. تلك الشخصية القوية ذات الاستقلالية الفكرية عن أي حزبية أو انتماءات أيديلوجية تكونت بفعل دراسته الاقتصاد وتأثيره في حياة الشعوب، وعمله بعد ذلك في الصحافة مقتربا من نبض الشارع وراصدا تداعيات الأحداث المتسارعة، كل تلك المحطات بلورت مواقفه المعارضة وهاجسه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وتطوير الخدمات العامة، داعيا إلى توفير حقوق المواطن الأساسية: تعليم جيد ورعاية صحية موثوقة وتمكينه من الحصول على عمل كي يصبح منتجا وفاعلا في المجتمع.

عاشق الوطن
عشق أبو بدر الوطن كما لم يفعل أحد غيره، وكانت مطالبه دائما محاسبة المقصرين وسماع شكاوى الفقراء، مقترحا وصفة العلاج "بحرية القول والتعبير والإشارة إلى مواطن الضعف والخلل دون خوف. ففي ظل الرقيب والخطوط الحمراء والمقص تبقى الحقيقة غائبة". ومحاربا بقلمه الرشيق "أقاتل القصائد البلهاء والآراء البلهاء والأطروحات البلهاء والأحاديث والكلمات والتهاني وخطابات الشكر والدروع والإعلانات التي يثرى بها أصحابها ويدمى بها الوطن"، وحرص على ختام سطور مقالته دائما بجملته الأثيرة "رزقي على الله" إشارة إلى مقصده الإصلاحي، ورفضه البحث عن مصالح شخصية ومنافع دنيوية.

الوطن في عيون ثامر الميمان
"ليس كلمة من خمسة أحرف، إنه الناس من تهامة حتى الشمال، ومن نجد حتى الحجاز بكل مكنوناته من التعب والصبر والانتظار"، والوطن يستحق كل هذا العشق والتضحيات، وعندما "نكتب عشقنا المختلف، نطبع على جبين الوطن كل صباح قبلة، حتى إن كان قول الحقيقة يسبب الصداع للآخرين، لأنها الكتابة ليست نزهة ولا طلباً للانتشار، الشهرة ليست أن يعرفك الناس، الشهرة ليست منصباً وإلا لاتسعت لها كل الأبواب وهي كثيرة، لقد أقسمنا أمام ضمائرنا، بل أمام الله ألا نخذل هذا الوطن، وأن نحبه بطريقتنا التي نراها، فإن كان حبه تهمة، فنحن نطالب بأن نكون في قائمة الاتهام، وفي قفص المتهمين حتى إن كانت أقدامنا حافية وجيوبنا خاوية، يكفينا أنه هامتنا العالية نحو الشمس، وإن استعصت علينا هداياه الصغيرة مع إشراقة، فهو يعرف أننا نحبه بطريقة مختلفة ولا نساوم عليه".

الحرية أولا
يتجلى الميمان مفكرا عند حديثه عن الحرية في مقال شهير "نعم الحرية أولا"، مقال يمكن اعتباره ميثاقا للعمل الوطني للمخلصين من رجال ونساء الوطن، وحتى لا يترك مجالا لباحث عن الهفوات، يقوم بالتعيين والتعليل في بداية الكلام كما يفعل المناطقة: ليست الحرية التي تحيل شوارعنا إلى حانات ومراقص.. وليست الحرية التي نتجاوز بها حدود الأدب.. وليست الحرية التي تتعارض مع الدين وليست حرية الانفلات التي تعتدي على حريات الآخرين. نريدها حرية الكلمة الصادقة الواعدة الأمينة.. نُريدها رأيًا مُستنيرًا.. نُريدها كلمة حق نبني بها وطناً ونسقط بها كل تجاوز أو ظلم أو باطل.. حرية تساوي بيننا أمام نظام عادل كما نتساوى أمام الله كل في تخصصه ومعرفته ومقدرته. نعم.. هناك خصوصية لهذه الأرض ولا يمكننا تجاهلها ولكن لا ينبغي أن نعتبرها عائقاً أمام الحرية إذا ما اتفقنا على أن الحريات ليست أن تقول أو تفعل ما تمليه عليك رغباتك وغرائزك.. الحرية هي أن تطالب بالحق الذي هو لك وبالحق الذي انتزع منك وبمحاسبة من أخذ وهو لا يستحق وسرق ممن يستحق.. الحرية نظام يحمي فكرك وحقك وقلمك وموهبتك ورأيك وقناعتك وألا يُحجر على هذا وألا تعاقب على فكر أو رأي لمجرد اختلافك مع الآخر. الحرية هي التي تثير الإبداع وتحرك الفكر وتبني الذات.. الحرية ليست فضاءً واسعاً من الفوضى والعبثية.. الحرية هي التي تعطيك حقك في البوح والصراخ والمساءلة والمطالبة دون خوف أو مُلاحقة أو مراقبة.. الحرية هي مدخلنا إلى حياة أجمل يتساوى فيها الناس أمام النظام والقانون وليست هذا التفكير المجنون بأنها تكسير للذات والثوابت أو أنها تجاوز للأعراف المُعتبرة.. لكنها أيضاً ليست هدفاً رخيصاً بهذا الرخص الذي اعتقد فيه البعض أنها هدف يشبع غرائزنا فقط".

قصائد نازفة
انتقد الميمان في مقاله "الخوف لا يصنع حياة" برنامج "شاعر المليون" لأنه يرسخ ثقافة المديح والتسول، معتبرا الشعر ينابيع من أنوار الحكمة والصفاء أو مثل فرس جامح لا يمكن ترويضه، لذلك ترفض نفسه الأبية هذه المظاهر المشينة والمهينة للشعر والشعراء، يقول في إحدى أجمل قصائده:
شفتك تجفف دمعتك بمنديل مستخدم/ شفتك بليل أظلم/ ناس وهروج/ شفتك تعب وحروف تتألم/ شفتك رغيف أجرب/ لا ماء، لا طريق، لا كهرب/ أشوف وأتعجب/ معقول هذا إنت/ الموت كان أقرب/ شفتك بلا مشلح ولا مشعاب/ والبحر كان أغضب/ آسف إذا أزعجتك/ بس ودي تجاوبني/ مين بالفعل يتعذب؟!/ أنا بجوعي وثوب بدون أكمام/ وإلاّ أنت بالحراس والوسواس/ ومليون قلم يكذب.
قصائد يكتبها بمداد القلب الموجوع مخاطبا رفيق الدرب: يا السنافي/ صارت الدنيا منافي/ ودام همي فوق كتفي/ وين ألقى له مرافي/ وأنا فوق جمر الأرض حافي.
سيبقى اسم ثامر الميمان محفورا في الذاكرة كعاشق للوطن والحرية وشاعرا متمردا وإنسانا نبيلا، مضى إلى جوار ربه في عطلة ربيع، تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته. وأحسن الله عزاء عائلته وأصدقائه وقرائه.

الأكثر قراءة