قطر .. اقتصاد الفرص الضائعة واستثمارات ارتبطت بالفضائح المالية
علمت "الاقتصادية" من مصادر مالية دولية مطلعة، أن وكالة فيتش ووكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني، ستقومان بتخفيض الجدارة الائتمانية لدولة قطر خلال الأيام القليلة المقبلة، وذلك نظرا لتدهور موقف الدين الخارجي القطري، مع تنامي الشكوك حول قدرة نموذج النمو الذي تتبناه السلطات القطرية على مواجهة تحديات السنوات المقبلة.
وينسجم القرار المتوقع لكل من وكالة فيتش وكالة ستاندرد آند بورز مع تقييمات شركة موديز للتصنيف الائتماني، التي خفضت بمقتضاها تصنيف قطر الائتماني من AA2 إلى AA3.
وتعد تقييمات مؤسسات التصنيف الائتماني، مرشد أساسي بالنسبة لاتجاهات الاستثمار العالمية، فعلى الرغم من أن تلك المؤسسات شركات خاصة، إلا أنها تصدر تقييمات تعرف باسم الجدارة الائتمانية، تكشف قدرة الدول على الاستدانة وسداد ديونها.
وتتمتع تلك التقييمات بثقة دولية عالية، فارتفاع التصنيف يعني أن اقتصاد الدولة محل التقييم يتمتع بثقة عالمية، تجعل لدى المستثمرين والمؤسسات المالية الدولية رغبة في إقراضها، لثقتهم بقدرتها على السداد.
أما انخفاض التقييم أو تراجعه فيعني أن قدرة تلك الدولة على الحصول على تمويل وقروض من الأسواق الخارجية، بات محل شك لعدم ثقة المقرضين فيها، وهذا تحديدا ما حدث لدولة قطر.
فتراجع التقييم الائتماني لدولة بحجم قطر، منخفضة الكثافة السكانية وثرية في مواردها المالية مقارنة بنظيراتها في دول الخليج وخصوصا السعودية ذات الكثافة السكانية العالية والمساحات المرتفعة، دفع بالعديد من الاقتصاديين والخبراء إلى الشك والتساؤل حول الأسباب الحقيقية وراء هذا الوضع.
الاقتصادية توجهت بالسؤال إلى عدد من الاقتصاديين والخبراء في مجموعة من الدول الأوروبية المختلفة، في محاولة للتعرف على تفاصيل المشهد الكلي لازمة الاقتصاد القطري.
الدكتور كلارجاكيه أستاذ الاقتصاد الدولي المعاصر في فرنسا والخبير في شؤون اقتصاد الشرق الأوسط، يعتبر أن الأزمة الراهنة للاقتصاد القطري لا يمكن إرجاعها إلى عامل واحد، وإنما هي المحصلة النهائية لمجموعة من العوامل الداخلية المتشابكة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، إنه يمكن القول بدرجة عالية من الثقة أن الاقتصاد القطري يمكن وصفه باقتصاد الفرص الضائعة، حيث أهدرت قطر فرصة تنموية حقيقية، كان يمكن أن تضعها على خريطة الاقتصاديات الناشئة، لكنها اتخذت مجموعة متتالية من القرارات الاقتصادية الخاطئة والمشبوهة، لم تعيق فقط من إمكانية تعظيم أرباحها من الثروات المالية التي حققتها خلال السنوات الماضية نتيجة ارتفاع أسعار الغاز، ولم تسمح بارتفاع مستوى معيشة المواطن القطري كنظرائه في بلدان الخليج الأخرى، أو إحداث طفرة نوعية في البنية الأساسية في المجتمع القطري، بل الأكثر خطورة أن تلك القرارات مثلت إهدارا شبه منظم للثروات المالية للدولة.
ويؤكد أن المشكلة الأساسية التي أدت بقطر إلى هذا الوضع الاقتصادي المتراجع، تعود إلى غياب رؤية حقيقية لدى السلطات السياسية في الدوحة، لكيفية إحداث تغييرات اقتصادية حقيقية في بنية المجتمع، إذ يعتمد القرار الاقتصادي في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية الإقليمية أو الدولية السائدة على ردود فعل مباشرة قصيرة الأمد وفورية، وهذا ما أدى إلى استنزاف الخزينة القطرية.
ويضيف" فعلى سبيل المثال أنهكت قطر بنيتها الاقتصادية المحدودة، واستنزفت الموارد المالية المتاحة لديها في مجموعة جزئية للغاية من الاستثمارات غير الربحية أو محدودة الربحية، دون سعي حقيقي لتنويع مصادر الدخل الوطني، فبمقارنة بـ"رؤية 2030" في السعودية، أو الأداء الاقتصادي في الإمارات، سنجد أن مستوى أداء قطر الاقتصادي هزيل وغير متطور، وسط شكوك متزايدة الآن على قدرة الدوحة على الوفاء بالتزاماتها الدولية".
الخبير الاستثماري الألماني الفريد شيفر، يعرب عن قناعته بأن غياب رؤية اقتصادية لدى المسؤولين القطرين، لم يكن العامل الوحيد وراء الوضع الاقتصادي المتداعي الذي يواجه الاقتصاد القطري حاليا، حيث إن ارتفاع الدين الخارجي لقطر إلى 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في 2016، من 110 في المائة في 2015 وهو الأعلى ليس فقط بين الدول الخليجية وإنما بين جميع الدول التي تحمل تصنيفات شبيهة، لا يعود من وجهة نظره إلى غياب الرؤية فحسب، وإنما إلى مجموعة من القرارات الاستثمارية التي يصفها " بالهوجاء والفاسدة".
وفي هذا السياق يشير لـ"الاقتصادية" إلى أن أنماط الاستثمار الحكومي القطري في الخارج، لا تأخذ في الحسبان المعايير الاقتصادية التقليدية المتعارف عليها، أو حتى معايير المدارس الاستثمارية الحديثة، فعامل الربحية أو الفائدة المحققة بالنسبة للمجتمع القطري ككل أو الدولة القطرية لا تعد معيار قوي في رؤية قطر الاستثمارية، بخلاف الأمر في الاستثمارات الكويتية والسعودية والإماراتية.
ويتابع" فمنطلق السلطات القطرية الاستثماري أن الخسارة لن تؤثر كثيرا على الميزانية القطرية، نظرا لثراء الدولة من بيع الغاز، أضف لذلك غياب الشفافية أو المحاسبة الداخلية لتبعات عملية إهدار أموال الدولة، ووضع القرار الاستثماري في يد مجموعة ضيقة للغاية من المتنفذين في الدولة، تغيب لديهم الخبرة الحقيقية، ويختلط لديهم الاستثمار الخاص والعام بحكم مواقعهم التنفيذية، واعتمادهم على استشارات استثمارية لبيوت أموال غير متخصصة أو حرفية".
ويذكر أنه في كثير من الأحيان تخذ الدوحة قرارات استثمارية مندفعة، تعلي من شأن البهرجة والاستعراض في وسائل الإعلام وتسليط الضوء على اسم قطر، دون أن يكون لتلك الاستثمارات مردودات حقيقية، بل في كثير من الأحيان تتعرض للخسارة ويتم تغطية ذلك إعلاميا.
وحول أنماط الاستثمارات القطرية تلفت الباحثة الاقتصادية البريطانية سو بارنيت إلى أن أنماط الاستثمارات القطرية تعلي من العوامل السياسية على حساب العامل الاقتصادي، إذ إن العديد من الاستثمارات القطرية في أوروبا تهدف في جزء كبير منها شراء الولاءات والدعم السياسي أكثر منها تحقيق مردود يعود بالفائدة على الدولة القطرية.
وتستدرك " لكن الخطر الحقيقي بالنسبة لمستقبل الاستثمارات القطرية في العالم، أن اسم قطر بات مرتبطا بالعديد من الفضائح المالية، ونشر الفساد داخل المؤسسات المالية والبنوك الأوروبية العريقة".
وتضيف " وعلى سبيل المثال فضيحة بنك باركليز البريطاني الذي يواجه اتهامات بالفساد وخداع مستثمريه، نتيجة توقيع البنك صفقة مع مسؤولين كبار في قطر ضخوا بمقتضاها أكثر من ستة مليارات استرليني في البنك، لإنقاذه من الأزمة المالية التي وقعت عام 2008 ولتفادي أن يقع ضمن خطة الحكومة البريطانية لإنقاذ البنوك المحلية، إلا انه اكتشف لاحقا أن الترتيبات الجانبية للصفقة تضمنت رسوما دفعها البنك لمسؤولين قطريين، وانه أقرضهم أموالا بشكل شخصي، لكي يعيدوا استثمارها في البنك، وبالفعل كشفت التحقيقات أن بنك باركليز منح تسهيلات لمستثمرين قطريين، وان الصفقة بكاملها كانت فاسدة، لأنها ممولة من البنك، لشراء أسهمه دون الإفصاح عن ذلك لسلطات سوق المال البريطانية، ويطالب المستثمرون اللذين رفعوا القضية بتعويض ربما يتجاوز المليار دولار أمريكي".
ويربط أستاذ الاقتصاد الدولي اندروا ديف بين الأزمة المالية القطرية وما يصفه بالسلوك السياسي الخطير لقطر.
ولـ"الاقتصادية" يؤكد أنه في المجتمعات الحديثة لا يمكن الفصل بين السياسي والاقتصادي في كثير من الأحيان، وقد تبنت قطر دائما نموذجا سياسيا يقوم في أقل تقدير على مناكفة الدول الكبرى في الإقليم، والتغريد خارج السرب، ومحاولة إقامة تحالفات شاذة وغير مستساغة إقليميا، إلا أن المضي قدما في ذلك النهج، كان يرفع دائما التكلفة السياسة التي تتحملها الدوحة، ونظرا لعدم امتلاك الدوحة المقومات اللازمة لسداد تلك التكلفة سياسيا، فإنها كانت تسعى إلى سد الثغرات دائما عبر تدفقات مالية ضخمة سواء تمثلت في مساندة جماعات متشددة أو إرهابية كحزب الله و"النصرة"، أو في شراء ولاءات دولية لتخفيف الضغط عليها وعلى حلفائها، وكان ذلك يتطلب في كثير من الأحيان تقديم رشا مالية، أو استثمارات دولية ضخمة غير مبررة، مثلت ثغرة لاستنزاف الأموال القطرية.
ولكن إلى أي مدى يمكن لازمة قطر المالية الراهنة أن تنعكس على التزاماتها الدولية؟ فتقييم موديز للتصنيف الائتماني لقطر يكشف عن ارتفاع كبير في الدين الخارجي لها بسبب ارتفاع المطلوبات الأجنبية للمصارف التجارية إلى أكثر من 120 مليار دولار أي بنمو 44 في المائة عن مستوياته قبل عام.
كما أن موديز أظهرت أن الحساب الجاري لقطر سجل عجزا يساوي 5.5 في المائة، من الناتج المحلي الإجمالي في 2016.
وتدفع تلك التقديرات بالبعض إلى الاعتقاد أن قطر لن يكون أمامها إلا التخلي عن بعض التزاماتها الدولية الضخمة وإلا ستواجه خطر الانهيار المالي المروع.
الخبير الاقتصادي توماس بولتن يقول لـ"الاقتصادية"، إنه لا يوجد من حل أخر أمام الدوحة إلا تقليص جزء كبير من نفقاتها الداخلية والخارجية، فالقطاع غير النفطي في قطر يعتمد على الإنفاق الحكومي، والميزانية القطرية لم يعد بمقدورها مواصلة عملية الإنفاق في ظل تزايد معدلات العجز المالي لديها، وتراجع قدرتها على الاقتراض الخارجي، وإذا واصلت الاقتراض من الخارج، فإن ذلك سيكون بمعدلات فائدة مرتفعة للغاية، ستزيد الطين بلة في المستقبل. ويبين أن أول عجز مالي سجلته الميزانية القطرية كان العام الماضي، وهو الأول من نوعه منذ 15 عاما وبلغ نحو 12 مليار دولار مما دفع الدوحة إلى بيع العديد من أنصبتها وأسهمها الدولية. ويضيف " اقتصاديا لم يعد في قدرة الدوحة الالتزام بإنفاق مبلغ 220 مليار دولار لتجهيز البنية التحتية لكأس العالم، ولذلك فإن الشكوك تتصاعد الآن في إمكانية استضافة الدوحة لكأس العالم، ويبدو أن ذلك الشعور بدء يتسرب إلى المسؤولين القطريين، فالعجز المالي دفع الدوحة إلى تقليص عدد الملاعب التي التزمت ببنائها من 12 إلى 8 فقط، ويتوقع أن تقوم بمزيد من التخفيضات خلال العام المقبل، مع تصاعد ضغوط الأزمة الاقتصادية عليها".
ويقول "لا يخفي المسؤولون في قطر خلال الأحاديث الخاصة، امتعاضهم من دبي لاستضافتها معرض إكسبو الدولي عام 2020، لأنه رفع تكلفة استقبال كأس العالم بالنسبة لها، وإيجاد المزيد من الضغط المالي عليها، فقطر حاليا تنفق 500 مليون دولار أسبوعيا على المنشآت الخاصة بكأس العالم، واضطرت الحكومة إلى استدانة 17 مليار دولار لتمويل عمليات الإنشاء، لكن هذا الترف عبر الاستدانة لم يعد بالسهولة ذاتها التي كانت في الماضي، فتدهور الأوضاع المالية للدوحة يعني أن كل قرض ستحصل عليه سيكون بأسعار فائدة مرتفعة للغاية".
ويوضح أن تراجع النمو الاقتصادي من 3.7 في المائة عام 2015 إلى 2.6 في المائة العام الماضي يضع شكوكا كبيرة على قدرة الدوحة في دفع فوائد القروض التي ستحصل عليها.
ويؤكد أن الوضع الاقتصادي المتردي في قطر حاليا يتجلى في تزايد إلغاء الشركات والمؤسسات الحكومية لعقود العمل، وحالة الركود التي يعانيها القطاع العقاري، فعلى سبيل المثال تراجعت أسعار الإيجارات بنحو 20 في المائة في بعض المناطق نتيجة مغادرة أعداد كبيرة من المستثمرين والشركات الدولية للبلاد. ويشير إلى أن إلغاء الحكومة للدعم المقدم لمواطنيها في بعض القطاعات، أدى إلى تراجع مستويات المعيشة، ففي كانون الثاني (يناير) من العام الماضي رفعت قطر أسعار البنزين بنحو 30 في المائة، وكانت كرستين لاجارد رئيسة صندوق النقد الدولي قد وجهت نصيحة إلى الدوحة، بأن الخروج من أزمتها الاقتصادية سيتطلب منها اتخاذ إجراءات لفرض ضرائب وخفض الإنفاق.