وقفات مع مسودة مشروع نظام الجامعات «2»
الوقفة الثانية: نصت مسودة نظام الجامعات الجديد على "تصنيف الجامعات إلى جامعات بحثية وتعليمية وتطبيقية"، هل بالفعل لدينا جامعات يمكن تحويلها لجامعات بحثية؟
الواقع يقول إن عديدا من مخرجات برامج الدكتوراه في التخصصات العلمية ضعيفة بدليل رفض الجامعات التي تقدم هذه البرامج للدكتوراه تعيين خريجيها أساتذة مساعدين فيها لقناعتهم أن المستوى العلمي لخريجي الجامعات الأمريكية أو الأوروبية أفضل. علاوة على ذلك، إقليميا، لم تكن تجربة مصر إيجابية عندما أوقفت الابتعاث الخارجي واقتصرت على تعيين حملة الدكتوراه من خريجي جامعاتها.
من جهة أخرى، تختلف الجامعات في تميزها، فمثلا بعض الجامعات تميزت فيها كلياتها الهندسية وبعضها تميزت كلياتها الشرعية، وهكذا بل داخل كل مجال علمي كالعلوم الصحية يتباين مستوى الجامعات فيما بينها. مثلا، حققت كلية الطب التابعة لجامعة الملك سعود المركز الأول في اجتياز طلبتها اختبار هيئة التخصصات الصحية، لكن حققت كليتا طب الأسنان والتمريض مركزين متدنيين في التصنيف. لذا قد لا توجد جامعة متميزة في كل تخصصاتها العلمية والنظرية والصحية فضلا عن أن يتم تصنيفها جامعة بحثية.
أعتقد أن تقسيم الجامعات لجامعات بحثية وتعليمية وتطبيقية لا يسهم في حل الإشكالية التي يعانيها التعليم العالي حاليا بل سيعمق التباين بين الجامعات ليس فقط على مستوى جودة مخرجاتها، بل حتى على مستوى قدرتها التمويلية والتنظيمية "سأتناول هذه النقطة بمزيد من التفصيل الأسبوع المقبل". الواقع يقول إن لدينا 28 جامعة حكومية يغلب عليها التكرار وضعف المخرجات، هذه الحقيقة انعكست سلبا على ضعف تناغم مخرجاتها مع متطلبات سوق العمل. فمثلا من غير المنطقي ألا يعي بعض خريجي الحاسب الآلي أبجديات الحاسب، أو لا يفهم بعض خريجي اللغة الإنجليزية أبجديات اللغة الإنجليزية. هذه الحقائق وغيرها انعكست سلبا على ارتفاع نسبة البطالة بين الجامعيين لأكثر من 49 في المائة حسب إحصائية مصلحة الإحصاء العامة لعام 2015.
أعتقد أنه من الأفضل أن يتم تقسيم الجامعات إلى جامعات تخصصية وتعليمية وتطبيقية. هذا التقسيم سيسهم في تقليل التباين في جودة المخرجات بين الجامعات. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، فإننا في حاجة لأن نضم بعض الأقسام العلمية المشتتة والضعيفة بين الجامعات من التخصص نفسه تحت مظلة جامعة واحدة. حيث يكون لدينا جامعة للتربية تضم كليات التربية المتفرقة بين عدة جامعات، وجامعة للحاسب تضم كليات أو أقسام الحاسب الموجودة في أكثر من جامعة، وهكذا يصبح لدينا جامعات متخصصة في الهندسة والإدارة والعلوم الصحية وعلوم الشريعة إلى آخره من التخصصات.
تقسيم الجامعات إلى جامعات تخصصية بدلا من بحثية سيحقق عدة مزايا منها:
1. سيرفع تحويل الجامعات إلى جامعات تخصصية من جودة مخرجات الجامعات ومستوى الأبحاث العلمية الصادرة منها. فلا شك أن البيئة العلمية والتعليمية ستكون أفضل لدعم الأبحاث إذا اقتصرت على علوم محددة. فالأقسام العلمية هي المكان الطبيعي لتجمع المختصين. كما سيصبح المجلس العلمي لكل جامعة مكانا لتجمع المختصين ما سيرفع مستوى القرارات الصادرة من هذه المجالس علميا وأكاديميا وبحثيا. فحاليا يغلب على المجالس العلمية ومجالس الأقسام الضعف نسبيا بسبب محدودية المختصين "الحقيقيين" خصوصا لدى الأقسام العلمية التابعة للجامعات الطرفية.
2. سيسهل هذا التقسيم تحقيق شراكات حقيقية مع القطاع الخاص حسب تخصص كل جامعة. فجامعة الهندسة -مستقبلا- سيكون لها شراكة حقيقية مع الشركات المهتمة بتوطين الصناعة، بينما جامعة الحاسب سيكون لها شراكة مع شركات التقنية وهكذا. هذه الشراكات ستدر على الجامعات مداخيل مالية كبيرة ستمكنها من دعم أنشطتها البحثية والتعليمية.
3. سيرفع هذا التنظيم من مستوى المجلات العلمية الصادرة من الجامعات. فحاليا يغلب على المجلات العلمية الضعف في تصنيفها لكونها مشتتة بين أكثر من تخصص ما يصعب على إدارة الجامعات حاليا التركيز على تخصص أو مجال محدد.
4. سيفعل دور مجلس الأمناء بصورة أكبر لأنه سيكون من ضمن أعضاء مجلس الأمناء أعضاء لديهم خلفية علمية ومهنية في مجال كل جامعة. فوضع الرؤية للجامعة التخصصية ودعم عملها سيكون أسهل لمجلس أمناء كل جامعة بدلا من أن تصبح لدينا مجالس أمناء مكررة في تخصصاتها.
5. اختيار الجامعة للدراسة بالنسبة للطلبة سيكون بناء على مجال تخصص كل جامعة وليس موقعها الجغرافي.
6. سيغير هذا التنظيم النظرة نحو الجامعات الطرفية لأنه سيكون لدينا تخصصات في معظم مدن المملكة ولكن مرجعيتها العلمية والأكاديمية والإدارية قد لا تكون من الفرع نفسه ما سيقوي البرامج العلمية المقدمة بغض النظر عن موقعها الجغرافي.
7. سيسهل تحقيق أهداف "برنامج التحول الوطني 2020" خصوصا الهدف المتعلق بزيادة عدد البحوث المحكمة والمنشورة الصادرة من الجهات العلمية في المملكة وكذلك الهدف المرتبط بزيادة عدد براءات الاختراع المسجلة الصادرة من المملكة. فالجامعات التخصصية ستسهل إيجاد الأرضية الحاضنة للأبحاث والاختراعات في مختلف المجالات العلمية سواء كانت صحية أو هندسية أو تقنية أو إدارية أو تربوية.
8. كما أن هذه الجامعات التخصصية سيكون لها دور استراتيجي ووطني في مجال تخصصها سواء في الجانب البحثي أو الاستشاري إضافة إلى التعليمي.
9. سيدعم وجود الجامعات التخصصية تعدد التخصصات الفرعية لكل مجال، كما سيسهم في زيادة أعداد أعضاء هيئة التدريس في عديد من التخصصات الفرعية والدقيقة ما سيرفع جودتها عبر تنوع تخصصاتها الدقيقة والفرعية داخل كل مجال علمي.
البعض يعتقد أن تعدد الفروع يضعف جودة التعليم في الفروع، وهذا الكلام غير صحيح بدليل أن جامعة كاليفورنيا الولاية "جامعة حكومية" تضم أكثر من 23 فرعا ويدرس فيها نحو نصف مليون طالب وتعتبر مع ذلك إحدى أفضل الجامعات في العالم. كما أن جامعة كاليفورنيا جامعة خاصة يدرس فيها نحو ربع مليون طالب ولها عشرة فروع ومع ذلك لم تتأثر جودة التعليم بتعدد الفروع بديل حصول بعض منسوبيها على 130 جائزة نوبل.
أخيرا وسائل التقنية الحديثة سهلت التواصل بسبب الثورة التي نشهدها في تقنية التعليم وبرامجها، لذا أعتقد أننا في حاجة لجامعات تخصصية بدلا من بحثية لأن التحول لجامعات تخصصية سيقودها حتما لأن تصبح بحثية لاحقا وهي مرحلة لا أعتقد أن جامعاتنا جاهزة لها حاليا.
وللحديث بقية،،،