تجربة التضامن الصحي الألماني
اكتسبت الفلسفة الاشتراكية بعض الشعبية في الأوساط العمالية الألمانية في نهاية القرن التاسع عشر. وفي محاولة للتصدي لها، عمد بسمارك، مؤسس وموحد ألمانيا إلى إصدار نظام للتأمينات الاجتماعية في عام 1883، تضمن النظام أول مشروع للتأمين الصحي على مستوى العالم. ركزت سياسة التأمين الصحي الألماني العام منذ بدايتها على مبدأ التضامن وضرورة تأمين الرعاية الصحية للمحتاجين بغض النظر عن دخولهم، كما ركزت على خفض تدخل السياسة في إدارة الرعاية الصحية. غطى التأمين الصحي ـــ في البداية ـــ العمال منخفضي الدخل وبعض موظفي الدولة، لكنه توسع مع الوقت ليوفر تغطية لمعظم سكان ألمانيا. يلزم القانون الألماني حاليا جميع المواطنين والمقيمين بالحصول على تأمين صحي.
يفرض القانون الألماني على السكان الذين يقل دخلهم عن مستوى معين (56 ألف يورو تقريبا في 2016) الانخراط في النظام الصحي الدستوري أو العام، بينما يعطي من يتجاوز دخلهم هذا المستوى الخيار في البقاء تحت مظلة التأمين العام أو الحصول على تأمين خاص، ويختار ثلاثة أرباع مرتفعي الدخل البقاء ضمن تغطية التأمين الصحي العام، وهذا مؤشر على أنه مقبول وجيد. يعفي التأمين العام الدخل الذي يتجاوز مستوى معينا (نحو 51 ألف يورو في 2016) من الحسم مقابل التأمين الصحي، وهذا يضع حدا أعلى للاشتراكات التي يدفعها العاملون ومشغلوهم. بُني التأمين الصحي العام على أساس التكافل أو التضامن، حيث يدفع المستفيدون من النظام الصحي العام 7.3 في المائة من أجورهم مقابل التأمين الصحي الدستوري أو العام، كما يتحمل مشغلو العمالة نسبة مماثلة من الأجور، وتذهب اشتراكات التأمين الصحي إلى صناديق صحية غير هادفة إلى الربح. وللعاملين المنخرطين في التأمين الصحي العام حرية الاختيار بينها، إضافة إلى ذلك يدفع العاملون اشتراكات إضافية للصناديق الصحية لتغطية العجز في هذه الصناديق "أو تلقي الفوائض في حالة حدوثها"، حيث لا تتجاوز 2 في المائة من أجورهم، وكان معدل هذه الاشتراكات أقل من 1 في المائة خلال السنوات الماضية. تلزم أنظمة العمل أيضا أصحاب الأعمال بدفع 2 في المائة من أجور العمالة مقابل التأمين ضد حوادث العمل. من جهة أخرى، يختار نحو 10 في المائة من إجمالي السكان الحصول على تأمين خاص، وعادة ما يكون هؤلاء من صغار السن مرتفعي الدخل الذين يستطيعون الحصول على تأمين صحي منخفض التكاليف، أما باقي السكان فيحصلون على تأمين صحي خاص بقطاعاتهم، وأبرز هؤلاء المنتسبون إلى الجيش والشرطة والقضاة، كما تتحمل الدولة جزءا من التأمين الخاص الذي يتمتع به موظفوها.
إضافة إلى التأمين الطبي العام تتشارك العمالة مع مشغليها في دفع 2.35 في المائة من إجمالي الأجور مقابل العناية طويلة الأجل، ويمكن من خلال الرعاية طويلة الأجل الحصول على خدمات إنجاز الأشياء الاعتيادية لغير القادرين على القيام بها سواء بسبب المرض أو الإعاقة أو كبر السن. يدعم هذا التأمين تكاليف العناية طويلة الأجل في المنزل أو خارجه، كما يمكن لأحد أفراد العائلة أن يتلقى دعما ماديا من هذا التأمين للعناية بكبار السن إذا كان لا يرغب في وضعهم في أماكن رعاية كبار السن.
على العموم يبدو أن العمالة تدفع في حدود 9.5 في المائة من أجورها مقابل الضمان الصحي العام والعناية طويلة الأجل، كما يدفع مشغلو العمالة نحو 10.5 في المائة من أجور العمالة مقابل الرعاية الصحية لأجرائهم، ومقابل ذلك يحصل معظم سكان ألمانيا على تغطية صحية جيدة وشاملة بما في ذلك تكاليف الأدوية وبدلات الفاقد من الأجر بسبب المرض. من جهة أخرى يتحمل المؤمن عليهم بعض التكاليف الأولية للعلاج والأدوية والمنافع الأخرى، لكنها محدودة وتهدف إلى الحد من استغلال النظام. يتعالج المستفيدون من التأمينين العام والخاص في المؤسسات الطبية نفسها. لا تتدخل الدولة في إدارة مزودي الخدمات الطبية، حيث تدار بشكل ذاتي، لكن يتم تمويل علاج المغطين بالتأمين العام من قبل صناديق الصحة. تعقد صناديق الصحة المدارة ذاتيا اتفاقيات مع منظمات المجتمع المدني المهنية للأطباء والصيادلة والمستشفيات، تحدد فيها تكاليف العلاج والخدمات الصحية، كما توجد كتالوجات بأسعار مرجعية للأدوية.
يعبر معظم الألمان عن رضاهم بالنظام الصحي، حيث يحصلون على تغطية صحية مقابل الاشتراكات التي يدفعونها مع مشغليهم. يرى كثير من المراقبين أن مستوى ونوعية الرعاية الصحية الألمانية جيدة مقارنة بالدول الأخرى، كما نجح النظام الألماني الصحي في توفير تغطية للأغلبية الساحقة من السكان. يحصل المستفيدون من التأمين الصحي العام على مزايا كثيرة مقارنة بالدول الأخرى، كما أن معدل الانتظار لإجراء عمليات أو فحوص معقدة منخفض. من الأشياء اللافتة للنظر في النظام الصحي وجود أطباء على الهاتف للإجابة عن أسئلة واستفسارات واستشارات المرضى في المناطق الجغرافية خارج أوقات عمل العيادات الخارجية، حيث يمكن الاتصال على رقم مجاني يحول الشخص إلى الطبيب المناوب على الهاتف. عموما يبدو النموذج الألماني الصحي جديرا بالدراسة، حيث يحقق نتائج جيدة ويوفر تغطية شاملة للسكان، كما يظهر أن فلسفة التضامن في الرعاية الصحية مقبولة في المجتمع الألماني. وأعتقد أن كثيرا من المجتمعات تتقبل فكرة التضامن والتكافل، حيث يتم من خلالها توفير رعاية صحية شاملة وجيدة ومتساوية لجميع المغطين، بغض النظر عن دخولهم، وتاريخهم المرضي، وأعمارهم، وجنسهم، وطبيعتهم المهنية، ومناطقهم السكنية.