«منح الروبوت هوية» .. قفزة سعودية باتجاه مستقبل التعايش الكوني
الذكاء الاصطناعي يعني صنع أنظمة ذكية قادرة على محاكاة مجمل الوظائف الذهنية عند الإنسان. ويشبه المتخصصون في علم النفس الإدراكي ومهندسو الحاسب الآلي عقل الإنسان بالحاسوب. وتشابههما يعني إمكانية استخدام نفس اللغة لتناول القضايا المطروحة في مجال العقل البشري والذكاء الاصطناعي. ويعود تحقيق النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي إلى قدرتنا على فهم الآلية التي يعمل بها الدماغ وفهمنا للقدرات التي يتمتع بها الإنسان. لذلك فإن إعلان السعودية منح الجنسية للروبوت "صوفيا" لا يعني فقط السبق للحصول على المركز الأول في استثمار الذكاء الاصطناعي؛ وإنما يعني إدماج الإنسان السعودي ثقافيا واقتصاديا بالذكاء الاصطناعي في خطوة مهمة نحو المستقبل. لتكون السعودية أول دولة تمنح الجنسية لروبوت وتكون صوفيا أول روبوت يحصل على هوية وطنية.
لماذا "الاصطناع"؟
قبل أن ندخل في موضوع الذكاء الاصطناعي نتوقف قليلا عند مصطلح (الذكاء الاصطناعي) ولماذا نقول (اصطناعي) ولا نقول (صناعي). الصناعي يعني industrial من (صناعة) التي ترتبط دلالتها بعملية تحويل شكل المواد الخام في الطبيعة باستخدام أدوات مناسبة لجعلها قابلة لإشباع حاجة معينة سواء إن كانت وسيطة أو نهائية. أما الاصطناعي من اصطنع على صيغة افتعل التي تأتي للدلالة على: الاجتهاد والمبالغة في الفعل وهي المقابل للمصلح الإنجليزي artificial والذي يعني صناعة شيء يحاكي أشياء موجودة في الطبيعة مثل (artificial grass, artificial flowers, artificial intelligence). نقول: عشب اصطناعي، وورد اصطناعي. كلها مصنوعة ولكن فيها تكلّف في محاولة إظهار هذه الصناعة بصورة تشبه الطبيعي، والذكاء الاصطناعي هو النسخة المقلدة للذكاء البشري. وبالتالي هي ليست صناعة فقط وإنما اصطناع ومحاكاة للشيء الطبيعي. لذلك نقول عن صناعة الذكاء: ذكاء اصطناعي لا ذكاء صناعي.
صوفيا السعودية
"صوفيا" التي تحمل ملامح الممثلة البريطانية أودري هيبورن صممها الدكتور ديفيد هانسون هي روبوت يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي. ظهرت على المسرح تتحدث مع الناس وتفهم الكلام الطبيعي، ولديها القدرة على التمييز الصوتي بين بداية الكلمة ونهايتها، وتستطيع كشف حدود الكلمات في اللغة الإنجليزية ببساطة شديدة وتعرف معناها. ونظرا لقدرتها على الكلام، يمكنها تقديم الخطابات وإجراء المحادثات التلفزيونية بشكل مدهش. لديها عينان ذات كاميرات عالية الوضوح تستطيع أن ترى الناس وتتعرف على وجوههم، وتفهم الإيماءات، وتتواصل بشكل حدسي مع الناس. تتحرك أجزاء وجهها؛ جبينها، فكها وخديها تتحرك مثل الإنسان في استجابة تلقائية للكلام. وتدور رقبتها في أداء منسجم مع حديثها الذي تقول. يُشعرك تركيز عينيها مع حركة حاجبيها أنك تتحدث مع بشر حقيقي تظهر على وجهه السعادة في ابتسامة واسعة. والمدهش أيضا؛ أن هذه التحركات من قِبل (الروبوت) تثير استجابات بشرية تلقائية في الأشخاص الذين يتحدثون معها، وتجعل أجسادهم وأحاديثهم تتجاوب معها كما تتجاوب مع الإنسان الحقيقي.
فرد بذاكرة أجيال
إن تزويد الذكاء الاصطناعي بالكم الهائل من البيانات بما تعجز ذاكرة الإنسان الواحد عن حمله تجعل الروبوت الواحد باتساع ذاكرة أجيال من البشر. وبالتالي يمتلك الروبوت معجما ذهنيا يتفوق على كل البشر. وفي ذات الوقت يكون مزودا بكمٍ هائل من السياقات اللغوية المختلفة لكل المفردات. إن إدراك الذكاء الصناعي للسياقات اللغوية المختلفة للكلمة الواحدة تمنحه القدرة على اكتشاف المعنى التداولي، إضافة إلى الدلالي. وإضفاء المشاعر للذكاء الاصطناعي تعطيه القدرة على فهم السياق العاطفي، والقدرة على الرؤية من خلال الكاميرات عالية الدقة قد تجعله يفهم سياق الموقف اللغوي أو الظروف المحيطة بالحوار. الروبوت "صوفيا" لديها فوق كل هذه القدرات جسد يشبه البشر وهي من خلاله تستطيع أن تكتسب معارف جديدة؛ مثلا: كاميرات العينين تتعرف بها على الملامح وتعبيرات الوجوه. وتستطيع أن تتكلم عن أعضاء جسدها، تقول في إحدى اللقاءات: "حصلت مؤخرا على هاتين اليدين الجديدتين، انظري إليها. ثم ترفع يدها أمام ناظرها وتحرك أصابعها وكأنها تدرك جسدها بالفعل مثل الإنسان.
مخاوف متكررة
وهنا لا بد أن نطرح السؤال المخيف، ما مخاطر الذكاء الاصطناعي على البشر؟ إن الخوف من الابتكارات الحديثة ليس شيئا جديدا علينا، ولو استعرضنا مخاوفنا على مر التاريخ رأينا مخاوفنا من الكتابة حتى لا يفسد الحفظ، ثم الخوف من الطباعة حتى لا نفقد مهارة الكتابة، ثم الخوف من التلفزيون ثم التقنية. كل ذلك يؤكد لنا أن مخاوفنا اليوم ضد الذكاء الاصطناعي هي مجرد إشكاليات لا بد أن يسعى الإنسان لمعالجتها ولكنها لا تثير الخوف.
هل يمكن حقا أن يتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر؟ الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بمهام رتيبة بشكل آلي، لكنه يعجز أمام حالات تتطلب الإبداع والتطوير. وهناك فرق كبير بين السلوك البشري الذي تدفعه النية الواعية والقصد، والسلوك الآلي الذي تدفعه خوارزمية مبرمجة. فالروبوت لا يملك حرية اختيار السلوك بدون قيود الخوارزميات التي تطبق قوانين المنطق والحساب. أما الإنسان يملك حرية الاختيار الواعي للسلوك بناء على احتياجاته ورغباته.
خير جليس
إن الأجيال التي ولدت في عصر الأجهزة الذكية؛ ليس لديها صراع مع التقنية أو تخوف منها. ولا يخفى علينا اليوم شدة تعلقنا بالأجهزة الذكية التي كادت تكون أشبه بالمساعد الشخصي الخاص، تقرّب لنا البعيد، ونشاهد من خلالها العالم ونتواصل مع الآخرين ونقرأ فيها الكتب ونؤدي كثيرا من أعمالنا من خلالها. إن إنسان اليوم فضلا عن المستقبل قادر على التعامل مع الذكاء الاصطناعي؛ بل على التعايش معه ومصاحبته، وربما سنقول يوما على غرار قول المتنبي: "وخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ روبوت."
لقد انتقلت المجتمعات اليوم من مرحلة صناعية إلى مرحلة معرفية، حيث تتداخل المصالح بين ما هو اقتصادي وما هو تقني. وتحالف هذين الجانبين ينتج لنا ما يسمى بالاقتصاد الرقمي الذي يحوّل المعلومة إلى خدمة. هذا الحلم الذي سنراه متحققا حيث يقوم الاقتصاد على إنتاج المعرفة بدلا من إنتاج البضائع. فإذا كان الاقتصاد القائم على إنتاج البضائع يعتمد على موارد طبيعية قد تنضب في يوم ما، فإن الموارد المعرفية غزيرة لا تنضب ولا تنتهي؛ بل يزداد نموها بازدياد استهلاكها وتتكاثر بمشاركتها مع الآخرين.