روسيا .. التكتيك الناعم لاستعادة الأمجاد
تسائِل التحركات الروسية المختلفة على المسرح الدولي، في السنين الأخيرة، بعضا ممّا جاء في المؤتمر الصحفي الأخير للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، حين قال "لا يمكن للروس تغييرنا أو إضعافنا بشكل كبير". وأضاف في معرض تفسيره لحيثيات هذا الحكم قائلا "إنهم دولة أصغر، وبلد أضعف. وباستثناء النفط والغاز والأسلحة، لا تنتج روسيا أي منتج يُحفز الآخر على اقتنائه. إنهم أمة غير مبتكرة، ولكن بإمكانهم التأثير فينا إن ضللنا المسار الخاص بنا، وفقدنا تعريفنا الصحيح لأنفسنا، يمكن أن يؤثروا فينا فقط إن تخلينا عن قيمنا".
يبدو أن الرئيس أوباما لم يحسن التقدير جيدا، فالظاهر أن روسيا اليوم دولة رئيسية لا غنى عنها في الشؤون العالمية. بعد أن تمكنت من العودة تدريجيا إلى المقارعة في ساحات الوجود الدولي، وهدَّت أساس التوازن الجيوبوليتيكي في الشرق الأوسط الذي تراه قريبا إليها؛ بما لا يسمح لها بالقباء في موقع المتفرج المكتوف الأيدي. وفي الشرق ووسط آسيا، وكذا بحر قزوين.
صحيح أن روسيا الآن غير قادرة، لعقد أو ربما أكثر، على تخطي القوة الأمريكية صناعيا واقتصاديا وعسكريا. لكنها ليست دولة صغيرة، كما جاء في الخطاب. فقد عززّت قوتها بعد الاستراحة الاستراتيجية التي أخذتها طيلة عقدين من الزمن، بعد انتهاء الحرب الباردة، وأصبح بإمكانها اليوم قول "لا" في وجه أعدائها ومنافسيها.
فرضت روسيا عودتها، كلاعب محوري على الساحة الدولية، بالحرب الناجحة التي خاضتها مع جمهورية جورجيا عام 2008. وقد استفادت كثيرا من الدرس الأمريكي في العراق، فهي "لا تتدخل بعمق، ولا تنسحب بسرعة"، لأنها تدرك جيدا صعوبة تحولها إلى قوة عظمى بسبب وضعها الاقتصادي، لكنها ترفض أن تبقى أسيرة هذه المعطيات.
لم تقبل روسيا أن يكون هذا الإكراه عائقا يحول دون عودة روسيا كقوة في الشرق الأوسط وبقية العالم، لذا استمرت في استراتيجيتها المتعددة المداخيل، على الرغم من العقوبات المفروضة عليها من قبل الغرب، بعد غزو موسكو لأوكرانيا عام 2014.
وقررت خوض الحرب في المستنقع السوري، منقذة نظام بشار الأسد من السقوط بعدما كان قاب قوسين أو أدنى من الانهيار. وبذلك يضع الروس أنفسهم في قلب المشهد الدبلوماسي للشرق الأوسط، ببعث رسالتين مهمتين إلى العالم: إحداهما؛ إعلان إيقاف النفوذ المنقطع النظير للولايات المتحدة الأمريكية. والأخرى؛ تأكيدها عدم التخلي عن حلفائها، فهي أكثر جدية في تسوية المشكلات من الأمريكان.
تعمل موسكو وفق تقنية تكتيكية تعرف في الجيوبوليتيكا باسم "الحرب الهجينة"، التي تشمل في طياتها العسكري السري والتلاعب الإعلامي والضغط السياسي والنفوذ الدبلوماسي. ونجحت روسيا إلى حد كبير في تنفيذ هذه الخطة على أكثر من صعيد.
لقد تجنّب دفع الولايات المتحدة خارج مناطق الصراع، حتى لا تدخل في مواجهة مباشرة معها، كما أنها تحرص على علاقات استراتيجية مع كافة الأطراف، ومستعدة للتعامل مع الجميع بدون استثناء؛ فهي لا تعترف بفلسفة المحاور "الخير/ الشر"، ولا الخطوط الحمراء في التعامل مع الدول.
ناهيك عن أنها لا تفوت أي فرصة؛ وإن بدت صغيرة. فقد ظلت اليابان لسنوات تُشكك في المزاعم الروسية بخصوص جزر الكوريل؛ من بقايا خلافات الحرب العالمية الثانية. لكنها وافقت السنة الماضية على معظم المطالب الروسية، واستطاع الطرفان إقامة نظام خاص للنشاط الاقتصادي المشترك على هذه الجزر.
كما استطاعت أن تفوز سياسيا بموطئ قدم لها في الاتحاد الأوروبي، عبر دعم عدد من الأحزاب اليمينية المتطرفة، بما فيها الجبهة الوطنية الفرنسية التي تحول شكوك حول تمويل موسكو حملتها الانتخابية الأخيرة، وحزب الحرية النمساوي الذي وقع زعميه قبل أشهر اتفاق تعاون مع روسيا.
عسكريا تعمل روسيا في الآونة الأخيرة على التسرب تدريجيا إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وتقترب من الخليج العربي. ففي الوقت الذي تدرس فيه مصر السماح لروسيا بفتح مجالها الجوي أمام سلاح الجو الروسي، يتوقع أن تمنح السودان قاعدة عسكرية لروسيا على أراضيها، بعد الحفاوة التي لقيها الرئيس السوداني في زيارته قبل أسابيع إلى موسكو، رغم ملاحقة المحكمة الجنائية الدولية له. قرار يضمن لروسيا نافذة على البحر الأحمر، وإطلالة على المحيط الهندي. بصيغة أخرى، ستكون قريبة من قناة السويس والخليج العربي، وهذا يجعل منها دولة قادرة على التأثير في الملاحة العسكرية والتجارية الدولية، وتغيير كثير من الموازين. نجاح يضاف إلى وجودها في قاعدة طرطوس السورية، وهذا يعني قربها من قناة السويس. وفي حالة وجودها في السودان، ستضمن حضورها في البوابة الجنوبية للقناة عبر البحر الأحمر.
بذلك تتوالى الاختراقات الروسية في عديد من بقاع العالم، وبمختلف الصيغ والأشكال، بعدما أعلنت روسيا عن القاعدة الأسمى لديها في الفكر الجيوسياسي الروسي والمتمثلة في عدم المس بالخرائط السياسية للدول. فالكرملين يعارض بشدة سياسة التقسيم، ويناهض مطالب الأقليات بالانفصال وتأسيس دول جديدة.
كان جون ميرشايمر دقيقا حين تحدث عن "مأساة سياسة القوى العظمى"، فأن تكون لدى الدولة أكثر من ألف قاعدة عسكرية في العالم شأن أمريكا اليوم، ليس كافيا وحده كي تحافظ على موقعك في العالم. كما أن القوة العسكرية وحدها لا تضمن السيطرة، ودرس أمريكا أكبر دليل؛ فجبروتها بدأ في التراجع بعدما قررت خوض معارك عسكرية، وحروبا في عديد من الدول "فتنام، أفغانستان، والعراق".
دروس استوعبتها روسيا جيدا على مدار ربع قرن، قبل أن تُبلور استراتيجيتها الجديدة لاستعادة موقعها في المسرح الدولي، بكافة الوسائل المتاحة وعلى كل الجبهات "عسكرية، دبلوماسية، اقتصادية، إعلامية، وسياسية..." مستغلة فقدان أمريكا البوصلة، وانشغال الاتحاد الأوروبي بأزماته الداخلية الكثيرة.