الأرجنتين تعود إلى صندوق النقد .. مرادف الأزمة والربا
قبل 17 عاما تسببت السياسات الاقتصادية التي يدعمها صندوق النقد الدولي في تركيع الأرجنتين. وبعد خمس سنوات على ذلك قطع الرئيس آنذاك، نيستور كيرشنر، العلاقات مع صندوق النقد الدولي، وأقسم ألا يعود إليه قط. لكن في الأسبوع الماضي اضطر الرئيس موريسيو ماكري، بسبب الهبوط السريع للعملة، إلى العودة إلى جهة الإقراض الدولية.
في خطاب متلفز موجه إلى الأمة، قال ماكري - بوجه يتسم بالجدية - "إن المساعدة المقدمة من صندوق النقد الدولي من شأنها المساعدة على "تجنب حدوث أزمة كالأزمات التي واجهتنا من قبل. فهذه المساعدة ستتيح لنا فرصة تعزيز برنامج النمو والتنمية لدينا".
كان هذا تراجعا مذهلا بالنسبة إلى رجل الأعمال السابق الذي يبلغ من العمر 59 عاما، الذي تولى زمام السلطة في كانون الأول (ديسمبر) 2015 متعهدا بجعل الأرجنتين "بلدا طبيعيا" بعد 12 عاما من الحكم اليساري برئاسة كيرشنر وزوجته كريستينا فيرنانديز. في بلد لا يزال يشعر فيه كثيرون بالصدمة عند ذكر اسم "صندوق النقد الدولي"، كانت تلك أيضا صدمة نفسية كبيرة.
يقول كارلوس جيرمانو، وهو محلل سياسي "عندما تتحدث عن صندوق النقد الدولي في الأرجنتين، فأنت تتحدث عن أزمة"، مضيفا أن "كلمة "الصندوق" أصبحت كلمة قذرة في الأرجنتين. بذلت حكومة كيرشنر ما في وسعها لتشويه سمعة صندوق النقد الدولي. والأغلبية العظمى تعتقد الآن أن هذه الكلمة مرادف للأزمة والربا".
وهناك عدد قليل من البلدان ممن لديها تاريخ يسوده الطابع السلبي في العلاقات مع صندوق النقد الدولي كتاريخ الأرجنتين. أصبح اسم الصندوق لدى كثير من الأرجنتينيين مرتبطا بصورة لا فكاك منها بالفوضى الاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت تخفيض قيمة العملة في البلاد عام 2001 وبالعجز عن الوفاء بديون حجمها 100 مليار دولار.
كانت الأزمة سيئة جدا بحيث فقَدَ واحد من بين كل خمسة أرجنتينيين وظيفته، وخسر البيزو الذي كان قد تم ربطه بالدولار، ثلثي قيمته. والمصارف جمدت الودائع. وأكثر من 20 شخصا قضوا في احتجاجات وأعمال نهب وسلب، وفي غضون أسبوعين فقط تعاقب على الدولة خمسة رؤساء.
قرار ماكري العودة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على خط ائتمان مقداره 30 مليار دولار ـ بحسب التقارير ـ ربما يعمل على تهدئة المستثمرين الذين يشعرون بالقلق إزاء قدرته على تحقيق الاستقرار في الاقتصاد بعدما فشلت سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة في إيقاف الهبوط السريع للبيزو، لكن السكان المحليين أقل اقتناعا.
يقول خوان كروز دياز، العضو المنتدب في "سيفيداس جروب"، وهي شركة استشارية في مجال المخاطر في بوينس آيرس "هذه أول أزمة خطيرة يواجهها ماكري، أول مطب كبير يواجهه في طريقه. في وول ستريت ربما يعتقدون أن هذا أمر جيد، لكن سيكون من الصعب كثيرا تسويق ذلك من الناحية السياسية".
وتعرضت شعبية ماكري بالفعل للضرر. بالتالي السعي للحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي لن يجدي في استرداد تلك الشعبية. وفي الوقت الذي كانت فيه ثقة المستثمرين بالأرجنتين محمولة، نوعا ما، على إمكانية فوز ماكري بفترة ولاية ثانية في عام 2019، تلقت هذه الفكرة أيضا ضربة خطيرة محتملة.
يقول وولتر ستويبلويرث، رئيس قسم البحوث في "بالانز كابيتال"، وهو مصرف استثماري محلي، "إن ماكري بدأ خيوط عملية ذات نهاية غير مؤكدة".
ويضيف "الأرجنتين لن تتمكن من الحصول على 30 مليار دولار من صندوق النقد الدولي ما لم تصل العملة إلى مستويات أضعف بكثير وتكون مستعدة لقبول المسؤولية السياسية المتمثلة في تعديل العجز المالي وضبطه بشكل أكثر قوة. سيكون هناك ثمن ربما لا يكون مقبولا لدى ماكري".
مع ذلك، وضع الأرجنتين الآن مختلف كثيرا عما كانت عليه في عام 2001. على مدى الـ 18 شهرا الماضية قطعت الحكومة أشواطا طويلة في استعادة ثقة السوق. حتى إنها باعت لمستثمرين دوليين العام الماضي سندات لأجل مائة عام كانت نسبة الاكتتاب فيها عالية فوق الحد، وتترأس هذا العام مجموعة العشرين.
ويرى محللون أن المحاولات المبذولة من قبل النقاد لمقارنة الأحداث الأخيرة بمرحلة ما قبل أزمة 2001 مبالغ فيها.
يقول دياز "لا أحد يفكر جديا في ذلك، فقد قطعنا شوطا طويلا بعد عام 2001، لا تزال الحكومة صلبة - مع وجود مشكلات، نعم، وكان هناك كثير من الانتقادات الموجهة إلى الطريقة التي يتم بها التعامل مع السياسة الاقتصادية - لكن لا أحد يشكك في قوة أو قدرة الحكومة على إدارة شؤون البلاد".
كذلك تغير الوضع المالي للبلاد بشكل جذري، فقد تم تعويم سعر الصرف ومعظم الودائع المصرفية بالبيزو وليس الدولار، بحسب ما يشير مارتن كاستيلانو، رئيس بحوث أمريكا اللاتينية في معهد التمويل الدولي. ونصف الدين العام تقريبا يجري اقتناؤه من قبل مؤسسات عامة مثل البنك المركزي، بينما في عام 2001 كانت تلك الديون في معظمها في أيدي القطاع الخاص.
وتغير أيضا الوضع السياسي بصورة عامة، في عام 2001 كانت المعارضة البيرونية قوية وحريصة على الإطاحة بحكومة فيرناندو ديلا روا المعتلة. اليوم المعارضة في حالة من الفوضى وغير قادرة على الاتحاد والاتفاق على قائد واحد، ولا أحد يعتقد جديا أن ماكري سيفشل في إتمام ولايته حتى نهايتها في كانون الأول (ديسمبر) 2019، بحيث يصبح أول رئيس غير بيروني يفعل ذلك.
صندوق النقد الدولي نفسه تغير هو الآخر. قال نيكولاس دوجوفني، وزير الخزانة الأرجنتيني الأسبوع الماضي "اليوم أصبح الصندوق مختلفا جدا عن الذي كنا نعرفه قبل 20 عاما. لقد تعلم دروسا من الماضي".
ولا يزال من غير الواضح ما هو بالضبط نوع برنامج الصندوق الذي تسعى الأرجنتين إلى الاستفادة منه. مع التضخم العالي، وحالات العجز الضخمة في الحساب الجاري وفي المالية العامة، من الواضح أن الأرجنتين لا تلبي المعايير اللازمة لما يسمى خط ائتمان مرن من صندوق النقد الدولي.
مع ذلك، قالت كريستين لاجارد، مديرة الصندوق "بدأنا المناقشات حول الطريقة التي نستطيع من خلالها العمل معا لتعزيز الاقتصاد الأرجنتيني، وسنتابع هذه المناقشات خلال وقت قصير".
ووصفت لاجارد الأرجنتين بأنها "عضو قيم في صندوق النقد الدولي". وكان من الصعب أن نتخيل استخدام لغة من هذا القبيل لوصف الأرجنتين قبل سنتين فقط.