التباطؤ التجاري وانعكاساته على المدن
ليس غريبا أن تشهد مدن كثيرة حول العالم تباطؤا في النمو في العامين المقبلين؛ بل هناك توقعات بأن تطول المدة إلى أكثر من العامين. وليس غريبا أيضا أن تعاني بعض المدن بشكل عام -حتى- انكماشا اقتصاديا، خصوصا تلك التي تمثل سندا رئيسا للموازنات العامة في بلادها. فالتباطؤ يشمل الاقتصاد العالمي كله. وفي الفترة الماضية، لم تتخلف جهة اقتصادية عالمية واحدة عن التحذير من أن هذا الاقتصاد ربما يصل إلى شكل من أشكال الكساد. وفي الآونة الأخيرة زادت التحذيرات بفعل استفحال الحرب التجارية الراهنة بين الصين والولايات المتحدة، والمعارك التجارية الأخرى هنا وهناك. حتى بعض الدول المتقدمة تشهد حاليا انكماشا ما لاقتصادها، بما في ذلك تراجع النمو بصورة لافتة في دولة كألمانيا وغيرها.
المهم أن التباطؤ يشمل الاقتصاد العالمي بشكل عام، وينعكس بالضرورة على المدن الرئيسة؛ على سبيل المثال تسهم مدينة لندن بأكثر من ربع الدخل القومي الإجمالي للمملكة المتحدة كلها، وكلما تعرضت هذه المدينة لتباطؤ أو تراجع في أدائها الاقتصادي، انعكس ذلك بصورة سلبية مقلقة على الموازنة العامة للبلاد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى مدن محورية عالمية عديدة، لكن لندن كانت الاستثناء الوحيد بين المدن الغربية الكبرى، حيث أشارت التوقعات إلى أنها ستحقق نموا بالفعل. والمدن في الغرب معرضة للتباطؤ أكثر من تلك الموجودة في الشرق. في النهاية، فإن الأوضاع الاقتصادية للمدن الكبرى هي صورة واقعية للأوضاع الاقتصادية على هذه الساحة الوطنية أو تلك. فالنمو على صعيد الدول الغربية تعرّض طوال الأعوام الماضية إلى تباطؤ بمستويات مختلفة، دون أن ننسى الآثار التي تركتها الأزمة الاقتصادية العالمية في هذه الدول وامتدادها إلى دول كثيرة أخرى.
لكن في المحصلة، هناك حقيقة تكمن في أن المدن الآسيوية مرشحة لتخطي نظيرتيها الأمريكية والأوروبية بحلول عام 2035 على صعيد النمو. هذا الاستنتاج جاء وفق بحث موسع، أظهر أن ثلثي مدن العالم مهددان بتباطؤ النمو، أما الثلث الأخير فسيتمتع بمستويات لا بأس بها من هذا النمو. وليس غريبا أن تتضمن قائمة المدن التي ستحظى بالنمو عددا من المدن الصينية، فالنمو في الصين حقق قفزات تاريخية في الأعوام الماضية. صحيح أنه تراجع بعض الشيء في الفترة الماضية على الصعيد الوطني، إلا أنه لا يزال الأعلى مقارنة بالنمو في دول أخرى في القارة الآسيوية وخارجها. وفي كل الأحوال، تشير التوقعات إلى أنه من بين 900 مدينة رئيسة حول العالم ستشهد 586 مدينة تباطؤا في النمو الاقتصادي في 2020 و2021. وهذه الاستنتاجات جاءت ضمن دراسة لمركز "أوكسفورد إيكونومكس".
بالطبع هناك كثير من الأسباب لتباطؤ النمو في المدن الكبرى في الشرق والغرب، لكن تراجع مستوى أداء التجارة العالمية يتصدر هذه الأسباب؛ فأغلبية هذه المدن تحتضن صناعات مختلفة، وهذا ما يدعم توجهات المؤسسات الاقتصادية العالمية الداعية إلى ضرورة حل المشكلات التجارية، خصوصا بين الدول الكبرى في أسرع وقت ممكن، فهذه المشكلات تؤثر سلبا بصورة مباشرة في طرفيها، وتنعكس على الحراك الاقتصادي العالمي. والمدن في النهاية هي جزء من الساحة الاقتصادية ككل. وفي النهاية، ستكون هناك مرحلة من التباطؤ في مدن لا أحد يتوقع أن تشهد تباطؤا، إلا أن التطورات التجارية والاقتصادية عموما، تغير كثيرا من المفاهيم والاستنتاجات حتى البديهيات.