الرحل الرقميون .. قبيلة قيد التشكل

الرحل الرقميون .. قبيلة قيد التشكل
الرحل الرقميون .. قبيلة قيد التشكل

ارتبطت بدايات الإنسان على وجه الأرض بالترحال، فالسعي المستمر وراء الطعام والأمن فرضا عليه التنقل الدائم من مكان إلى آخر بحثا عنهما، إلى أن نشأت المدينة الحديثة، فكبلته بقيود حدت من حريته في الحركة والتنقل، إذ باتت مداراتها منتهى أحلام الإنسان المعاصر "عمل، منزل، سيارة...". أصفاد دفع التطور التكنولوجي نحو كسرها، ما سمح بإعادة الترحال إحدى سنن الأجداد لدى شباب وفتيات القرن 21، بظهور بفئة تمردت على القواعد، وانتصرت لمغامرة السعي وراء اكتشاف العالم.
يؤمن الرحل الرقميون بوجود فرص أخرى لنسج تجارب حياتية مختلفة عما جرت العادة عليه، منذ نشأة النظام الرأسمالي، ولا سيما في ظل الانفجار التكنولوجي والمعلوماتي الذي يسمح بالمزاوجة بين العمل والسفر، وما دامت متطلبات أداء العمل متوافرة في مختلف مناطق العالم، فلا مبرر إذن للبقاء أسيرا داخل جدران مكتب أو حدود مدينة أو دولة. نعم، لم تعد هناك حاجة للحضور الجسدي قصد إنجاز عمل أو أداء مهمة، فالتكنولوجيا وتقنيات الاتصال تمكنان من القيام بالأعمال في أي مكان من العالم.
ارتبط مصطلح "الرحل الرقميون" بظهور فكرة العمل عبر الإنترنت وعلى منصات التواصل الاجتماعي، ما يجعل الظاهرة حديثة نسبيا فهي بالكاد لا تتجاوز العقدين من الزمن. وكان الثنائي دافيد مانرز وتسوجيو ماكيموتو أول من استخدم الكلمة عام 1997، في سياق تنبئهما بنمط جديد للحياة، يتيح للأفراد تحررا أكبر من قيود الزمان والمكان. واقعيا، يعد "الرحل الرقميون" جماعة من العاملين الذين يعتمدون على الإنترنت لكسب لقمة العيش، فهم في ترحال دائم بصحبة حواسبهم النقالة، فتنفيذ أعمالهم ممكن من أي رقعة جغرافية في العالم ما دامت توفر شبكة إنترنت مستقرة، تجعلهم في اتصال مستمر مع عملائهم وزملائهم في العمل.
ينعت هؤلاء كذلك بـ"البدو الرقميون"، فهم مثل البدو الرحل، لا يعرف الاستقرار سبيلا إلى حياتهم في بحثهم الدؤوب عن الخصب والرعي. تشبيه صحيح ظاهريا فقط، لأن البدو التقليديين مجبرون على التحرك في عالم مادي محسوس، تسود فيه الندرة (الماء والكلأ...) والتقلبات التي تحتم الترحال فرارا من شظف العيش. بخلاف البدو الجدد حيث الكلأ الرقمي الذي يبحثون عنه دائم الوجود في عالم افتراضي، يسمح بالعيش في رفاهية مطلقة، دون حاجتهم إلى التحرك الدائم.
تفيد الأرقام بشأن هؤلاء الرحل أن نبوءة الكاتب الكندي مارشال ماكلوهن في كتابه "فهم الإعلام" (1964) في طريقها للتحقق، إذ سبق للرجل أن تحدث، قبل ستة عقود، عن قيام فرص لعودة الإنسان إلى حياة البداوة بفضل التطور الإعلامي المتلاحق، "الإعلام سيؤثر في نمط حياة الإنسان الذي سيعيش في العصر الرقمي، وأن نمط حياته سيكون أشبه بالبداوة في سعيه واستفادته من المعلومات". حاليا، ينتشر في العالم ما يزيد على 35 مليون رحالة رقمي، نحو النصف منهم (16.9 مليون عامل) في الولايات المتحدة، بمتوسط أعمار يبلغ 32 عاما، مع استحواذ للنساء على هذه الجماعة بنسبة تقترب من 2 /3 من إجمالي البدو الرقميين.
تنامي الظاهرة، بالتزايد المستمر في أعداد الأفراد الذين اختاروا تبني نمط حياة الترحال الرقمية، جعلها محل متابعة واهتمام من جانب دول عدة في العالم، بالنظر إلى ما يجلبه هؤلاء لاقتصادات هذه الدول، فضلا عن مساهمته النوعية في انتعاش قطاعي السفر والسياحة بعد جائحة كورونا. فاهتدت، حسب تقرير معهد سياسة الهجرة، إلى أن تستحدث ما يعرف بتأشيرة "البدو الرحل الرقمية" DNV التي تتباين شروط الحصول عليها من دولة إلى أخرى. بات بمقدور الرحل الجدد، واستنادا إلى هذه التأشيرة، دخول دول مثل إستونيا، القوة الرقمية الصاعدة في القارة العجوز، والبرتغال وتايلاند والمكسيك وجورجيا وبربادوس وناميبيا والإكوادور وماليزيا وألبانيا واليونان...
تدريجيا، بدأت تظهر وجهات معينة في العالم يتخذها الرحل الرقميون مقصدا لهم، خاصة الأماكن التي تجمع بين الحسنيين، جودة في المناخ مع تكاليف عيش منخفضة، فتحولت مناطق بعينها إلى عواصم عالمية يرتادها الرحالة الرقميون، على غرار محافظة شيانغ ماي (تايلاند) وجزيرة بالي (إندونيسيا) ومدينة إريسيرا (البرتغال) وجزيرة تينيريفي (أرخبيل الكناري) ومدينة ميديلين (كولومبيا) وبلايا ديل كارمن (المكسيك) وكيب تاون (جنوب إفريقيا) ونيروبي (كينيا)... لدرجة أن أعدادهم تصل أحيانا إلى الآلاف في بعض الأماكن، خمسة آلاف رحالة رقمي في بالي، ونحو الألفين في تايلاند.
أسلوب حياة يغري لما يوفره من امتيازات مفتقدة في العمل المكتبي، من حرية في اختيار ساعات ومكان العمل ونوعية العملاء وفرص للاستمتاع بالطبيعة والتجول واكتشاف ثقافات شعوب أخرى، فضلا عن تقليل التكاليف بالعيش في دول أرخص، بعيدا عن إكراهات وضغط المدن الكبرى. لكن هذا التحرر يستوجب في المقابل ثمنا لا بد من أدائه، بدءا من فقدان الاستقرار ما يعدم أي فرصة لإنشاء روتين، ما يؤثر في النهاية على الإنتاجية. فكثرة الترحال مرهقة نفسيا وجسديا، ما ينعكس على الإنتاج الذي يحتم قدرا معينا من الروتين.
إضافة إلى غياب الاستقرار الاجتماعي، فهؤلاء الرحل بعيدون عن عائلاتهم وذويهم، كما تحكي ذلك رحالة رقمية بدأ لهيب الإثارة يخبو في نفسها، بعدما اكتشفت ثمن هذه الحرية، حين وجدت نفسها سائرة نحو العزلة والوحدة والاكتئاب. فضلا عن التقلبات والاضطراب المستمرين للشؤون المالية. أما نمط الحياة الصحي فيبدو صعبا في حالة التنقل المستمر، الذي يجعل الرياضة والنظام الغذائي عصيين على التحقق، فالحرص على المردودية حفظا على التوازن المالية يدفع نحو التفريط في أشياء تبقى متاحة، وبكل بساطة، في حياة الأفراد العاديين (الرياضة، الطعام الصحي...).
مهما يكن من أمر، يبقى الثابت أن قبيلة الرحل الرقميين لا تزال قيد التشكل، فأعداد الملتحقين بها في ارتفاع مستمر، ما يحتم على هؤلاء التفكير بجدية في سبل لتجاوز هذه الإكراهات والمعوقات، وتذليل الصعوبات أمام أبناء القبيلة للوفاء لها، بدل التفكير في العودة إلى الأصل بعد أعوام قليلة من تجريب حياة الرحل الجدد.

الأكثر قراءة