توازن المالية العامة رافد لنمو مستدام للاقتصاد

أسفرت نتائج الميزانية العامة للدولة خلال الربع الأول 2024 عن ارتفاع إجمالي الإيرادات الحكومية بمعدل سنوي 4.4% (293.4 مليار ريال)، مدفوعة بنمو الإيرادات غير النفطية سنويا بـ9% (111.5 مليار ريال)، والإيرادات النفطية بمعدل سنوي أدنى بلغ 1.9% (181.9 مليار ريال)، مقابل نمو سنوي لإجمالي المصروفات الحكومية للفترة نفسها بـ7.7% (305.8 مليار ريال)، متأثرة بارتفاع المصروفات الرأسمالية 32.8% (34.5 مليار ريال)، ونمو المصروفات الجارية بمعدل سنوي أدنى بلغ 5.2% (271.3 مليار ريال)، وهو ما ترتّب على حدوث عجز مالي بلغت قيمته نحو 12.4 مليار ريال (1.2% من الناتج المحلي الإجمالي)، تم تمويله بالكامل عبر الاقتراض الداخلي والخارجي، دون اللجوء إلى رصيد الاحتياطيات الحكومية، وبناء عليه فقد ارتفع حجم الدين العام مع نهاية الربع الأول 2024 إلى 1.1 تريليون ريال (26.2% من الناتج المحلي الإجمالي).

كان بإمكان المالية العامة أن تقلّص من حجم الإنفاق الحكومي خلال الفترة، خاصة في جانب الإنفاق الرأسمالي بنفس قدر العجز المالي الناشئ على أقل تقدير، وأن يصل إلى نحو 22.1 مليار ريال بتراجع سنوي يبلغ 14.9% ومن ثم جني ميزانية عامة متوازنة، إلا أن آثاره العكسية خاصة إذا تكرر لأكثر من مرة على امتداد فترات العام المالي، ستكون ثقيلة على الأداء الاقتصادي الكلي، وستتجاوز النتائج المحتملة لضغوطها كثيرا من الاتجاهات، بدءا من انكماش النمو الاقتصادي، مرورا بتأخر تنفيذ المشروعات التنموية، وتأخر تنفيذ عديد من مبادرات وبرامج رؤية المملكة 2030، وكل ذلك سيفضي إلى تباطأ النمو الاقتصادي للقطاع الخاص، بما سيترتب عليه انكماشا في مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، وانكماشا آخر على مستوى توليده للوظائف، وتأخره بصورة ملموسة عن المساهمة في خفض معدل البطالة بين المواطنين والمواطنات. وبعدئذ، هل يستحق الاقتصاد الوطني أن يكابد تلك التكلفة الباهظة وواسعة الآثار، حتى لا يتحمل بعض العجز المالي الذي لا تتجاوز نسبته 1.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي الوقت ذاته بالإمكان تمويله بالاعتماد على الملاءة المالية المتينة التي تمتلكها الحكومة، قياسا على متانة احتياطياتها وقوة الاقتصاد التي هي أحد أهم ركائز امداده بالتمويل والموارد؟

في المقابل، نظير إعادة برمجة تنفيذ المشروعات التنموية العملاقة، والعمل على تحقيق مبادرات وبرامج رؤية المملكة 2030 التي تمّت قبل نهاية العام المالي الماضي، لم تذهب الميزانية العامة للدولة إلى حدودٍ أعلى من العجز المالي فوق المستطاع، وبما لا يؤدي إلى حدوث موجات تضخمية في الاقتصاد، إضافة إلى استمرار السيطرة على الدين العام بما لا يتجاوز مستوياته الراهنة نسبة إلى حجم الاقتصاد الوطني، وبما لا تتجاوز معه تحمل أعباء تكلفة تمويله سقف الـ3% سنويا من إجمالي المصروفات الحكومية (بلغت 2.9% من إجمالي المصروفات الحكومية بنهاية 2023)، كل هذا يشير بشفافية مرتفعة إلى تحقق التوازن المنشود على طريق تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، فلا تباطأ أو تأخير عن تنفيذها المخطط له، ومن جانب آخر لا تسرّع بأكثر من يتحمّله الاقتصاد الوطني والميزانية العامة للدولة على حد سواء.

يأتي الحديث أعلاه إيضاحا مهما أمام تفسيرات قد تكون بعيدة عن الصواب بحال حدوث عجز مالي من عدمه، وأن من الأهمية بمكان الربط الوثيق بين أية تطورات في المالية العامة مع كل المتغيرات الاقتصادية الأخرى في الاقتصاد الكلي، وفهمها وتحليلها بما يتوافق مع تحقيق المستهدفات الكلية للاقتصاد والمجتمع، دون تأخير أو تقصير، ودون مبالغات قد يكابد الاقتصاد انعكاساتها في وقت كان بالإمكان إلى حد بعيد جدا تجنبها، وهو التوازن المنشود الذي يجب أن تتسم به أي سياسة مالية لها ثقلها الكبير في أي اقتصاد يستهدف الاستقرار والنمو المستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي