حرب تجارية في التكنولوجيا النظيفة تظهر كيف تسقط الإمبراطوريات

ربما يصعب على الولايات المتحدة أن تحافظ على هيمنتها، لكن ذلك شبه مستحيل إذا تراجعت وانعزلت عن العالم، كيف لأمة تجارية عظيمة أن تتعامل مع فكرة أن أيام مجدها قد ولت؟
بالنسبة لأول دولة سلكت هذا الطريق وهي بريطانيا، كانت النتيجة أزمة هوية لا تزال مستمرة بعد أكثر من قرن. وبينما تقف الولايات المتحدة عند مفترق الطرق نفسه، يتعين عليها أن تفكر فيما إذا كانت التجارة الحرة أو السياسة الحمائية تَعِد بالطريق الأكثر ازدهارا.
إن جمع المملكة المتحدة بين قوة التصنيع وحرية التجارة جعل منها تلك القوة البارزة في القرن التاسع عشر، حتى إنها كانت تنتج نحو ربع الإنتاج الصناعي في العالم بحلول العقود الأخيرة من ذلك القرن. لكن تحت قشرة الثقة التي اكتسبتها من وضعها الإمبراطوري كمنت مخاوف عميقة، وذلك بفعل ظهور قوى جديدة.
زوال الهيمنة البريطانية
في شيكاغو، امتدت شركة "يونيون ستوك ياردز" Union Stock Yards على مساحة تعادل نصف مساحة مدينة لندن القديمة، وكانت توظف عشرات الآلاف، وتصنع ما يكفي من اللحوم لإطعام 80 % من سكان الولايات المتحدة. واستنسخ هنري فورد ابتكارات خط إنتاج "ياردز" في ديترويت لبناء مصانع سيارات على نطاق لم يشهده العالم من قبل. وفي لودفيسهافن جنوب شتوتغارت، فقدت بريطانيا ريادتها في مجال الصناعات الكيميائية لمصلحة شركة "بي أيه إس إف" BASF التي جعلت مصانعها المتكاملة الضخمة من ألمانيا دولة تكاد تحتكر إنتاج هذه المواد بحلول 1900.
كان جوزيف تشامبرلين قد استقال من أكبر شركة لتصنيع البراغي في العالم قبل أن تفقد مكانتها لمصلحة منافسين أمريكيين وألمان، وأصبح منذ ذلك الحين أحد أكثر السياسيين نفوذا في بريطانيا. ورأى أن الحل في تراجع الإمبراطورية عن تقاليد حرية التجارة، إذ قال في عشاء مع زملائه البرلمانيين: "الرسوم الجمركية، إنها سياسة المستقبل، والمستقبل القريب".
أفضى ذلك إلى سياسة "التفضيل الإمبراطوري"، التي وعدت بفرض رسوم باهظة على الواردات من خارج الإمبراطورية. وكان هذا الاتجاه السياسي سائدا إلى أن أزالت الحرب العالمية الثانية مظاهر هيمنة بريطانيا العالمية. وألقى ذلك بظلاله على علاقة المملكة المتحدة المتوترة مع الكتلة التجارية للاتحاد الأوروبي منذ ذلك الحين.

التنافس الأمريكي الصيني

أوجه الشبه مع أمريكا وهي تواجه براعة الصين الصناعية في أيامنا هذه لافتة للنظر. فمثلما كان الحال في أواخر العصر الفيكتوري في بريطانيا، تواجه قوة مهيمنة وهي الولايات المتحدة منافسا يفضلها في عنصري الأرض والعمالة -الصين-، ويلحق بها سريعا على صعيد رأس المال. وعلاوة على ذلك، تظهر الصين استعدادا للاستثمار والبناء على نطاق يفيض على المنافسة. ومثل هنري فورد الذي عمل على تكامل جميع العمليات في مجمعه الصناعي الضخم على نهر روج، بل سعى إلى امتلاك مناجم فحم وحديد خام ومزارع مطاط لتوفير المواد الخام، فإن هيمنة الصين على سلسلة توريد التكنولوجيا النظيفة تكاد تكون مطلقة.
تنتج الصين 84 % من ألواح الطاقة الشمسية في العالم، و86 % من بطاريات أيونات الليثيوم، فضلا عن 67 % من القمرات التي تربط شفرات توربينات الرياح بأبراجها، و70 % من التحليل الكهربي لإنتاج الهيدروجين الأخضر، بحسب "بلومبرغ إن إي إف".
وفي العام الماضي، بيعت نحو 60 % من السيارات الكهربائية في العالم بالصين، وفقا لوكالة الطاقة الدولية. كما أن صادراتها من السيارات الرخيصة وعالية الجودة تؤرق صناعة السيارات العالمية، ما يسبب مخاوف متزايدة في واشنطن من أنها ستتفوق في نهاية المطاف على المنافسين المحليين.

نتائج سيئة للحمائية

قال الرئيس الأمريكي جو بايدن أمام حشد من عمال الصلب في بيتسبرغ يوم 17 أبريل: "إننا نقف بوجه الممارسات الاقتصادية غير العادلة للحكومة الصينية، وفائض القدرة الصناعية بالصين"، ووعد بزيادة الرسوم الجمركية على المعادن الصينية وقطاع بناء السفن. وأضاف: "نحن في وضع أقوى للفوز بالمنافسة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين على حساب الصين". يبقى أن نرى ذلك، فلم يزل في علم الغيب.
كانت محاولة بريطانيا استخدام التجارة للفوز بالسباق الاقتصادي في القرن الماضي قصيرة الأمد، وحتى عصر التحرير الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، كان "التفضيل الإمبراطوري" بمنزلة السياسة الوحيدة منذ عام 1932، عندما فرضت المملكة المتحدة رسوما جمركية شاملة نسبتها 10 % تشبه بدرجة غريبة ذلك المعدل الذي يطرحه دونالد ترمب الآن. ورغم كل المخاوف التي سادت أوائل القرن العشرين، ظلت المملكة المتحدة ضمن القوى الصناعية الخمس الأولى إلى جانب فرنسا وخلف الولايات المتحدة واليابان وألمانيا حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تفوقت الصين وإيطاليا أولا، ثم كوريا الجنوبية والهند والمكسيك وروسيا.
كان مصير الدول التي التزمت بشكل أكثر صرامة بالحمائية أقل لطفا. فقد بدأت دول أمريكا اللاتينية حقبة ما بعد الحرب وهي أكثر ثراء من معظم نظيراتها الآسيوية، وفرضت رسوما جمركية مرتفعة كوسيلة لبناء الصناعات المحلية، على النقيض من نهج التجارة الحرة الذي اتبعته سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية. وكانت النتيجة تصلب قطاع التصنيع، وتعثر النمو بعد موجة أولية من الانتعاش، واستمرار أعباء الديون على مدى عقود.

طريق كئيب

لن تسلك الولايات المتحدة طريقا كئيبا كهذا. فعدد سكانها ووفرة الموارد ورأس المال والخبرة التكنولوجية سيجعلها من بين القوى الثلاث الأولى إذا استمرت التوقعات المعقولة. في بواكير العصر الاستعماري عام 1750، كانت الهند تحت حكم المغول، والصين في عهد سلالة تشينغ الحاكمة، تنتج كل منهما أكثر من ربع الإنتاج الصناعي العالمي، وعلى ما يبدو أن هذا الوضع هو النتيجة المنطقية في القرن الحادي والعشرين أكثر بكثير من تلك التي تعزل فيها النزعة الحمائية لإحدى القوى العظمى قوة أخرى عن بقية العالم.
وقد يكون من الصعب الحفاظ على هيمنة واشنطن المعتادة في المستقبل مع تصارع اقتصادات صناعية متعددة كل منها بحجم قارة على الصدارة. ومع ذلك، سيكون الأمر مستحيلا إذا انسحبت أمريكا إلى شرنقة الانعزال.

 خاص بـ «بلومبرغ»            

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي