العجز المستهدف في حوار وزير المالية السعودي

أجرت "الاقتصادية" حوارا مع محمد عبد الله الجدعان وزير المالية، ظهرت خلاله عديد من المفاهيم في المالية السعودية، ما يستحق المناقشة هنا، مثل العجز المستهدف ومفهوم الإنفاق الاستراتيجي، فالعجز كمفهوم قد ضُخّم خلال العقود الأخير، لأنه ارتبط بالأزمات المالية منذ نهاية العقد الأول من القرن الحالي، وارتبط عجز الميزانية الأمريكية بإغلاق الحكومة الفيدرالية، لكن الحقيقة أن العجز ليس القضية؛ بل هو نتيجة، إذ هو مؤشر لحالة لا حالة بذاته، ففي نموذج الميزانية الحكومية القديم يظهر كوسيلة للرقابة تُحدد كافة أنواع الإيرادات المتوقعة باستقلالية تامة عن النفقات. بل حتى النفقات التي تخطط لها الجهات الحكومية تأتي مستقلة وفقا لقاعدة متوسط ثلاث سنوات إنفاق، بهذا يظهر العجز (محاسبيا) عندما "نكشف" أن النفقات أكثر من الإيرادات، فهو غير محدد القيمة سلفا ولا معروف سببه، ومن الصعب في مثل هذه الحالة المحاسبية إدارة النفقات التي أدت لهذا العجز ومعالجتها، ذلك أن مصدر التضخيم في الإنفاق غير معروف على وجه الدقة، لهذا تتعامل الحكومات مع العجز وفقا لروح المفاجأة التي فيه، فقد تأتي طلبات صرف للمالية العامة ولديها إيرادات لحظية ونقدية متوافرة من مصادرها، فلا يحدث العجز فعليا، وقد تأتي لحظات تتنامى فيها النفقات وطلبات الصرف ولا يوجد إيراد كاف، حينها تتصرف المالية كما يتصرف رب الاسرة إما بتأخير الإنفاق أو بالسحب من الاحتياطيات أو بطلب قرض عاجل، وغالبا قصير الأجل من البنوك المحلية لسد العجز، هنا نقول إن العجز غير مستهدف ولا مخطط له، لكن في السياسات المالية الحديثة المتقدمة، فإن مستويات الإنفاق المرتفعة لم تعد مفاجئة ولا مجهولة المصدر، بل هي مستهدفة بذاتها، وهنا يظهر معنى الإنفاق الاستراتيجي طويل الأجل، وهذا ما أحدثته رؤية المملكة 2030 من تغيير في إدارة المال العام.
لقد أصبحت نفقات المالية العامة معروفة ومحددة بدقة أكثر، لأنها مرتكزة على رؤية اقتصادية واضحة، وكما ألمح وزير المالية فإن الإنفاق الاستراتيجي يشير إلى توجيه وتخصيص مدروس للموارد المالية نحو أهداف وأولويات محددة تتماشى مع الأهداف الاقتصادية طويلة المدى. فتوجيه الأموال أصبح ذا بعد استراتيجي وليس وفقا لطريقة متوسط ثلاث سنوات، الذي ينقل أخطاء في إنفاق الماضي للمستقبل، بل يمكن للحكومة والمؤسسات التابعة من خلال الإنفاق الاستراتيجي تحفيز النمو والتنمية الاقتصادية، وتعزيز الابتكار، وزيادة الإنتاجية بتضمين مبادرات الإنفاق الاستراتيجي الاستثمار في تطوير البنية التحتية، والبحث والتطوير، والتعليم وتدريب المهارات، والتكنولوجيا، ودعم الصناعات والقطاعات الواعدة.
هذا يعني أننا نعلم جيدا قبل تنفيذ الميزانية العامة للدولة أن حجم الإنفاق سيكون عند مستويات معينة ونعرف متى سيكون، وهنا أعود لإجابات وزير المالية، إذ هو يؤكد الالتزام بتحسين استغلال النفقات الحكومية الاستراتيجية بهدف تنويع القاعدة الاقتصادية حيث بلغ إجمالي الإنفاق بنهاية 2023 نحو 1,293 مليار ريال مرتفعا عن 2022 بنسبة 11%، نتيجة التقدم فــي عمليــة تنفيــذ المبادرات، وتنفيذ الاستراتيجيات المناطقيــة والقطاعيــة بهـدف تحقيـق تنميـة شـاملة للقطاعـات وتنويـع القاعـدة الاقتصادية. هنا يمكن الانتقال بالنقاش لمشكلة عدم توافر السيولة النقدية في الوقت الصحيح كما كان يحدث سابقا.
لقد أشاد الوزير بالدور الذي تلعبه الإيرادات غير النفطية اليوم، التي منحت الحكومة مرونة في التعامل من النفقات، فلم يعد هناك مفاجآت وقلق من تقلبات أسعار النفط أيضا، أو تأخر التحصيل النقدي، فنتيجة للإصلاحات الهيكلية كما قال الوزير بدأت الاعتمادية على الإيرادات النفطية كموجه لمسار النفقات تقل، وبدأت الإيرادات غير النفطية تحل محلها في تمويل المشاريع، وقد اتضح هذا جليا من 2018، وعندما بلغت نسبة الإيرادات غير النفطية 38 % من إجمالي الإيرادات في 2023، وكانت نسبة الإيرادات غير النفطية من الناتج المحلي غير النفطي ارتفعت من 9 % في 2015 إلى 18 % في 2023. كما بلغ إسهام الإيرادات غير النفطية في تغطية أسقف النفقات نحو 17 % في 2015 وقد وصل إلى 35 % في 2023.
هكذا تجد المفاهيم التي أشار له الوزير مكانها في المشهد الاقتصادي، فالعجز مستهدف لأننا نريده، ونعرف بالضبط كم حجم الإنفاق لسنوات مقبلة، ونعرف علام ننفق ونرغب في الاستمرار في ذلك الإنفاق، كما نعرف حجم الإيرادات غير النفطية المستقرة عموما، التي تنمو بنمط معروف، ولم يعد تأثير تقلب النفط عميقا في هذا المخطط، لهذا نعرف العجز بالضبط ونستهدفه لنحافظ على المشاريع والزخم، ولهذا لا نقلق بشأنه بل أصبح الدين العام جزءا لا يتجزأ من الاقتصاد السعودي، وهناك خطط مالية لعديد من الأسر والمؤسسات وفقا للصكوك التي تصدرها لحكومة وتمثل مصدرا للدخل الثابت لهم.
وفقا لهذه التصورات التي رسمها بدقة حوار الاقتصادية مع وزير المالية السعودي فإن القلق ليس من وجود العجز  فأغنى دول العالم لديها عجز امريكا واليابان مثلا ديون تفوق ناتجها المحلي عدة مرات، ولكن علينا أن نقلق حقا عندما تتوقف الحكومة عن الانفاق او تخفض الانفاق بشكل حاد ذلك أن استثمارات مهمة للأفراد والمؤسسات قد تختفي، واذا كان غياب العجز بسبب تنامي الإيرادات مرحب به لكن يجب ألا نفقد مشاركة المجتمع في الاستثمار مع الحكومة من خلال صكوكها المتنوعة وان توظف الدولة قوتها الاقتصادية للاستفادة من أسواق الدين العالمية وخصوصا في أوقات الرخاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي