لغة ريادة الأعمال والتنمية المستدامة

يكتسب الحديث عن التنمية المستدامة صفتها الرئيسة، أي صفة القابلية للاستمرار والاستدامة. ويعود ذلك إلى سبب وجيه. ويتجلى هذا السبب ليس فقط في مدى تشعب مجالات هذا الحديث، وتغطيتها لموضوعات عديدة، بل إنه يتمثل أيضا في عمق تكامل هذه المجالات، وتشعباتها المشتركة، فضلا عن التجدد المعرفي الذي تشهده. فهي تضم التعليم، وتأهيل الإنسان، ونشر المعرفة في مختلف الموضوعات. وهي تشمل البحث العلمي وتوليد المعرفة والإبداع والابتكار فيها، وما ينتج عن ذلك من نشر علمي، وبراءات اختراع. ثم إنها تتضمن أيضا ريادة الأعمال، والاستثمار في توظيف المعرفة والاستفادة منها، وإدارة الأعمال التي تقدمها، إضافة إلى تسويقها أيضا. وهي تصل من خلال كل ذلك إلى تحقيق التنمية، عبر توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، وتفعيل التطور التقني، والاستمرار في ذلك طالما استمر التجدد المعرفي، والتميز فيه، وحسن الاستفادة منه.

حديثنا اليوم في التنمية المستدامة يتركز على لغة تخاطب الابتكار مع ريادة الأعمال، ولهذا الأمر أهمية خاصة ترتبط بالدور المهم لريادة الأعمال في تمكين الابتكار من الإسهام في التنمية، وكذلك في استغلال تجددها في تفعيل استمرارية هذه التنمية، وتحقيق استدامتها. وينظر إلى ريادة الأعمال على أنها استثمار تقوم به مؤسسة أو فرد في معرفة مبتكرة تحمل قيمة، يمكن لقطاع من المستخدمين في السوق، الاستفادة منها. وقد تتمثل هذه المعرفة في براءة اختراع مسجلة، أو فكرة مفيدة غير مسبوقة. وعلى هذا الأساس ينظر إلى رأس المال المستخدم في هذا المجال على أنه يتصف بالجرأة لأنه يستند إلى معطيات معرفية جديدة، لم تتجمع خبرات السوق بشأنها بعد، لكنها تبدو واعدة، تتطلع إلى آفاق تنموية جديدة. وقد أسهمت ريادة الأعمال، معززة بالابتكار، عبر الزمن، في بروز كل ما نعرفه اليوم من تقنيات ظهرت ونجحت، إضافة إلى ما سيظهر في المستقبل من مستجدات مفيدة أخرى.

وإذا كان الابتكار يمثل الدافع الفاعل لريادة الأعمال، فإن لغة الابتكار في مخاطبة ريادة الأعمال تكمن في خصائص جدة الابتكار وجودة القيمة التي يقدمها في السوق وتميزها، فضلا عن الجدوى الاقتصادية لهذه القيمة بين متطلبات الاستثمار وعوائده. وسنركز في التالي على لغة الجدوى الاقتصادية، لأن لكل ابتكار جدة وجودة تضمنها براءات الاختراع المسجلة لكثير من المبتكرات من جهة، ولأن الجدوى تحمل الأثر المستهدف لأي استثمار، سواء استند إلى معرفة مبتكرة غير مسبوقة ليكون ريادة أعمال، أو كان استثمارا تقليديا يعتمد على مختلف مجالات الأعمال المعروفة.

يحتاج التعرف على الجدوى الاقتصادية لأي استثمار إلى دراسة علمية متعددة الجوانب، وتزداد هذه الدراسة تعقيدا كلما كان الموضوع مرتبطا بمعارف جديدة، تفتقر إلى خبرات اقتصادية سابقة، أي كلما ارتبطت هذه الدراسة بريادة الأعمال. وهناك سبعة جوانب رئيسة لمثل هذه الدراسة. أول هذه الجوانب التعريف بالدراسة، بما يتضمن تحديد القاعدة المعرفية التي تستند إليها، وطرح الأهداف المطلوب تحقيقها. أما الجانب الثاني للدراسة فيتضمن التعرف على السوق المستهدفة، وبيان خصائصه وحجمه، وإدراك مدى التوافق بينه وبين الأهداف المنشودة. ويبرز هنا الجانب الثالث الخاص بدراسة الجدوى الفنية أي القابلية التقنية للتنفيذ، والعوامل الإيجابية والسلبية المرتبطة بذلك.

ونصل إلى الجانب الرابع، جانب التحليل المالي الذي يختص بالتكاليف وتحديد حجم الاستثمار المطلوب من جهة، إضافة إلى دراسة العوائد المتوقعة من الاستثمار، بما في ذلك تقدير الزمن اللازم لاستعادة مبالغ الاستثمار والبدء في جني الأرباح من جهة أخرى. ونأتي إلى الجانب الخامس، وهو معني بالنواحي القانونية والتنظيمية المؤثرة التي يجب أخذها في الحسبان. ويبرز بعد ذلك الجانب السادس الذي يختص بتحليل المخاطر المؤثرة والمتأثرة بكل ما سبق، وصولا إلى الجانب السابع الذي يلخص ما سبق، متوجها نحو اتخاذ القرار اللازم بشأن مستوى جدوى الاستثمار المأمول.

تمثل دراسة الجدوى جانبا حاسما من اللغة التي يجب يتعلمها أهل الابتكار من أجل مخاطبة ريادة الأعمال، بغاية توصيل القيمة التي يحملها الابتكار إلى أرض الواقع. وليس طريق مثل هذه الدراسة مفروش بالورود، بل إن مضامين جوانبها المختلفة، تتضمن تقديرات وفرضيات مختلفة أيضا، ربما تخطئ وقد تصيب. ويرى كثيرون ضرورة أن تقوم دراسة الجدوى بتقديم نوعين، أو "سيناريوهين"، من المخرجات: مخرجات متفائلة تعطي حدا أعلى للجدوى المتوقعة، ومخرجات أقل تفاؤلا تقدم حدا أدنى لها. بذلك يكون للجدوى المتوقعة مكان بين الحدين، يتمتع بدرجة أعلى من الموثوقية البعيدة عن المفاجآت.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي