العرب وعلوم الأولين

"علوم الأولين" مصطلح يحمل أوجها عدة باختلاف الدراسات التي تتناوله. يضفي عليه الفقهاء والمفسرون وجها يختلف كثيرا عن الوجه الذي يرسمه له الفلاسفة والمؤرخون والمثقفون العرب.
وشاع هذه المصطلح -الذي أحيانا يظهر أيضا بصيغة "علوم الأولين والآخرين"- لدى العرب بوقت قصير بعد تأسيسهم أول دولة عظمى على أنقاض أمصار إمبراطوريتين، البيزنطية في الشام والفارسية في العراق.
قبل تحول العرب إلى دول لها صبغة الإمبراطورية كان أغلبهم ينظر بازدراء إلى علوم الأولين التي -بالنسبة إليهم- لم تتعد أهميتها الأساطير وحكايات الجن مهما كانت درجة صدقيتها العلمية.
سرعان ما أسس العرب دولتهم في الشام (على شاكلة الإمبراطوريات في حينها) فشعروا بحاجة ملحة لتملك ناصية علوم الأولين، حيث رأوا فجاءة أن ما لديهم من علوم لا يرتقي إلى قيادة دولة عصرية في مفهوم ذلك الزمان.
وأصبحت الحاجة إلى اكتساب علوم الأولين مسألة مصير ووجود، خصوصا في القرنين الأول والثاني من فترة الدولة العباسية في العراق.
فما هي يا ترى علوم الأولين، وكيف استطاع العرب اكتسابها وتوطينها، ومن ثم تشييد حضارة مزدهرة لا يزال أحفادهم وغيرهم من الناس يشيدون بها وبأعلامها وعلمائها ومفكريها وفلاسفتها؟
عندما تحضّر العرب وسكنوا الأمصار وبنوا الدول غيروا نظرتهم إلى علوم الأولين، وهي المعارف التي لم يكن للعرب فيها مساهمة تذكر وكانت متوافرة بلغات غير لغتهم، خصوصا اليونانية والفارسية والسريانية.
وكانت علوم الأولين هذه قد حققت قفزات كبيرة في حقول، مثل: الفلسفة والمنطق والرياضيات والطب والفلك والهندسة، حقول لم يكن للعرب فيها ناقة ولا جمل، لأنها أساسا كانت في بطون كتب بغير لسانهم. ولم يكن أمام العرب بدّ أو طريق غير اكتسابها وتوطينها وتطويرها ثم الاستحواذ عليها، هذا إن أرادوا لدولتهم الحياة، ومن ثمّ بناء حضارة ترقى الى ما لدى منافسيهم من الأمم.
صار العرب ودولتهم الحديثة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما اكتساب معارف وعلوم الأولين والبناء عليها أو فقدان المقدرة على المنافسة وخسران ليس قصب السبق بل خسارة المشروع النهضوي وهزيمته. إنه حقا خيار وجودي ومصيري بعد اليقين أن علوم الأولين ليست مجرد أساطير بل معارف لا تستقيم الحياة دونها ولا تنهض الأمم إن لم تمتلك ناصيتها.
ماذا اتبع العرب من سياسات ومشاريع وخطط كي يصلوا إلى وضع يتساوون فيه مع الدول الأخرى من حيث اكتساب العلم والمعرفة؟ اتبعوا منهجين، والمنهجان سارت عليهما الدول الغربية وهي تشق طريقها صوب التمدن والحضارة.
- المنهج الأول تمثل في تأسيس مجتمع متعدد الثقافات والديانات والمذاهب والمشارب، ومنح العلماء والمترجمين مكانة خاصة وبناء المدارس والجامعات. مهما كان هناك من سلبيات للخلافة العباسية في العراق والأموية في الأندلس، فلا أظن أن هناك مؤرخا منصفا يستطيع إنكار أن التعدد الثقافي كان سمة بارزة للدولتين.
- المنهج الثاني تمثل في تدشين حركة ترجمة -قد أجزم أن التاريخ لم يشهد لها مثيلا- إذ صار للمترجمين مكانة مرموقة، وإلى اليوم يرن صدى أسماء مترجمين بارزين لامعين لا زالت بصماتهم محسوسة في الحاضر الثقافي العربي.
لم يمض نصف قرن تقريبا إلا وغدت أمهات الكتب اليونانية والفارسية والسريانية والهندية وغيرها متوافرة باللغة العربية إلى درجة قد يجزم المرء أن العرب، ولا سيما في القرن الأول من الخلافة العباسية في بغداد، لم يتركوا كتابا في الدنيا إلا عرّبوه.
عندما توافرت علوم الأولين بالعربية؛ شرع العرب في دراستها وتوطينها والبناء عليها، وظهر في صفوفهم مفكرون وفلاسفة وعلماء فلك وفيزياء وطب وهندسة وجبر ورياضيات وكيمياء واجتماع وتاريخ وغيره فاقوا في تجاربهم ومؤلفاتهم واختراعاتهم ما كان متوافرا في علوم الأولين التي جرت ترجمتها.
هذان المساران لعبا دورا محوريا في الحضارة العربية والإسلامية -التي كانت لقرون أسمى وأرفع حضارة في الأرض قبل أفول نجمها.
قدمت هذا الإيجاز الفكري لحث العرب ودولهم على تتبع المسارين إن كانت لهم رغبة في النهضة والرقي وتملّك ناصية العلم والمعرفة، والسباحة في عالم تقوده نهضة علمية صناعية تكنولوجية خارقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي