الجغرافيا السياسية وتأثيرها في التجارة العالمية والدولار

إن العلاقات الاقتصادية العالمية تتغير على نحو لم نشهده منذ نهاية الحرب الباردة. وبعد أعوام من الصدمات ــ بما في ذلك جائحة فيروس كورونا 2019 (COVID-19) والحرب الروسية - الأوكرانية، تعيد الدول تقييم شركائها التجاريين على أساس المخاوف الاقتصادية والأمنية الوطنية. كما تعيد توجيه تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على طول الخطوط الجيوسياسية. وتقوم بلدان بإعادة تقييم اعتمادها الكبير على الدولار في معاملاتها الدولية وممتلكاتها الاحتياطية.
كل هذا ليس سيئا بالضرورة. ونظراً للتاريخ الحديث للأحداث، يركز صنّاع السياسات بتزايد مبرر على بناء المرونة الاقتصادية. لكن إذا استمر هذا الاتجاه، فقد نشهد تراجعاً واسع النطاق عن قواعد الاشتباك العالمية، ومعه تراجعا كبيرا في المكاسب الناجمة عن التكامل الاقتصادي.
دعونا نلقي نظرة فاحصة على المدى الذي قطعناه في هذا الطريق فعلا. وقد زادت القيود التجارية الجديدة بحدة - أكثر من ثلاثة أضعاف منذ 2019 - في حين توسعت العقوبات المالية أيضا. وارتفع مؤشر المخاطر الجيوسياسية في 2022 بعد الحرب الروسية - الأوكرانية. وتزايدت مخاوف القطاع الخاص بشأن التجزئة - التي تقاس بعدد الإشارات في المكالمات الهاتفية المتعلقة بأرباح الشركات.
رغم هذه الاتجاهات، إلا أنها لا توجد حتى الآن علامات واضحة على تراجع العولمة على المستوى الإجمالي.
منذ حدوث الأزمة المالية العالمية، عندما انتهت العولمة المفرطة في التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الـ21، كانت نسبة تجارة السلع إلى الناتج المحلي الإجمالي مستقرة تقريبًا - حيث راوحت بين 41 و48 %. لكنّ تحت السطح علامات متزايدة على التشرذم. وتجري إعادة توجيه تدفقات التجارة والاستثمار على طول الخطوط الجيوسياسية.
على سبيل المثال، انخفضت حصة الصين في الواردات الأمريكية 8 نقاط مئوية بين عامي 2017 و2023 بعد تصاعد التوترات التجارية. وخلال الفترة نفسها، انخفضت حصة الولايات المتحدة في صادرات الصين بنحو 4 نقاط مئوية. وانهارت التجارة المباشرة بين روسيا والغرب في أعقاب غزو أوكرانيا والعقوبات اللاحقة على روسيا.

ماذا عن آثار الجغرافيا السياسية في العلاقات التجارية على نطاق أوسع؟
ولنتأمل هنا عالماً منقسماً إلى ثلاث كتل: كتلة تميل إلى الولايات المتحدة، وثانية تميل إلى الصين، وأخرى من دول عدم الانحياز.
كان متوسط النمو التجاري المرجح على أساس ربع سنوي بين الدول ذات التوجهات الأمريكية والدول ذات التوجهات الصينية خلال الربع الثاني من 2022 إلى الربع الثالث من 2023 أقل بنحو 5 نقاط مئوية من متوسط النمو التجاري الربع سنوي المرجح خلال الربع الأول من 2017 إلى الربع الأول من 2022. وفي الوقت نفسه، شهد النمو الفصلي في التجارة داخل التكتلات انخفاضًا بمقدار نقطتين مئويتين فقط.
في المتوسط، في الفترة التي أعقبت الحرب الروسية - الأوكرانية، نرى أن التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر بين الكتل انخفض بنحو 12 و20 % أكثر من التدفقات داخل الكتل، على التوالي. ومن الجدير بالذكر أن هذه الأنماط لا تحركها الولايات المتحدة أو الصين بشكل فريد، بل إنها تظل صامدة حتى عندما يتم إخراج هذين البلدين من الصورة. وهذا يطرح سؤالاً: لماذا لم نشهد تأثيراً أكبر لفك الارتباط بين المنافسين الجيوسياسيين على التجارة العالمية؟
يرجع ذلك إلى إعادة توجيه بعض التجارة والاستثمار عبر بلدان ثالثة، ما يعوض جزئيا عن تآكل الروابط المباشرة بين الولايات المتحدة والصين.
منذ 2017، ارتبط الوجود الصيني الأكبر في أي بلد - يتم القياس إما من خلال الصادرات أو الاستثمار المعلن عنه - بزيادة صادرات ذلك البلد إلى الولايات المتحدة.
حتى الآن، لا يختلف الانقسام اليوم كثيرا عن الأعوام الأولى للحرب الباردة. ومع ذلك، فمقارنة بمتوسط "العجز التجاري بين الكتلة" خلال فترة الحرب الباردة بأكملها، فإن التفتت حتى الآن أصغر حجما. لكن لا يزال هناك سبب للقلق. إذ إن تجزئة التجارة أكثر تكلفة هذه المرة على عكس بداية الحرب الباردة .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي