تباين الزمن .. حلول يمكنها أن تصنع لغزا

تباين الزمن .. حلول يمكنها أن تصنع لغزا

إذا كانت عقارب الساعة في الرياض تشير إلى التاسعة مساء، ففي أريزونا ستشير إلى الـ11 صباحا من اليوم ذاته، أما في العاصمة الأسترالية كانبرا فستعادل الخامسة صباحا من اليوم التالي. من قرر ذلك؟ وهل من تفسير علمي له؟ وما السر وراءه؟ الجواب باختصار هو المناطق الزمنية التي يمكنها أن تصنع لغزا، مفاده، كيف يمكن أن يموت شخص الخميس، ويدفن في الأربعاء الذي قبله مباشرة؟

حل مشكلة
اهتدى القدامى إلى النطاقات الزمنية لحل مشكلة تباين المواقيت، بتغير الأمكنة والمواقع، ولا سيما في الرحلات والأسفار، حيث كانت المزولة الشمسية هي الضابط لتحديد التوقيت المحلي. فكانت فكرة تقسيم الكرة الأرضية إلى 24 قسما متساوية، بين قسم وآخر ساعة زمنية واحدة، ما يعادل 15 درجة على خط الطول، أي ساعة واحدة زمنيا. هكذا، بات العالم مقسما إلى شرائح طولية، تبدأ من جرينتش شرقا وغربا.
وفقا لذلك، صار خط التوقيت الدولي حدا فاصلا بين اليوم والأمس، فمن هناك يبزغ يوم جديد. وتعد دولة جزر فيجي في ميلانيزيا في جنوب المحيط الهادئ، على نحو 2000 كيلومتر عن جزيرة ماوري بشمال شرق نيوزيلندا، أول مناطق اليابسة التي تشرق عليها الشمس. ينتقل النهار تدريجيا، بسبب دوران الأول حول نفسها، حيث يقطع 15 درجة طولية كل ساعة، بما يعادل أربع دقائق زمنية لكل درجة تدورها الأرض حول نفسها.

روايات متضاربة
نظريا، تبدو قصة المناطق الزمنية في منتهى البساطة، بخلاف ما عليه الحقيقة في الواقع، فوراء المسألة تاريخ طويل وروايات متضاربة. تبقى أشهرها تلك التي تعد المهندس والمصمم الاسكتلندي ساندفورد فليمنج الأب الروحي للفكرة، التي تولدت لديه بسبب انزعاجه الشديد من تفويت موعد قطار في أيرلندا عام 1876. تمكن الرجل من حل مشكلة مطاردة الشمس، قصد ضبط الساعة على توقيت بلد الوصول، عند كل رحلة سفر طويلة بالقطار أو الطائرة.
هكذا، أضحت ساعات العالم رسميا، بدءا من عام 1963، خاضعة لتوقيت عالمي منسق (UTC)، الذي يرادف لدى الدول الناطقة بالإنجليزية، توقيت جرينتش (GMT). فخط جرينيتش، الذي على أساسه يحدد توقيت كل مدينة في العالم، بمنزلة "صفر الزمان"، فكل منطقة في الكرة الأرضية سابقة (+) أو متأخرة (-) عن التوقيت العالمي، بحسب موقعها إلى هذا الخط. بصيغة أكثر وضوحا، تكون الدولة أسبق من حيث الزمن عند امتلاكها لمنطقة زمنية موجبة، عكس ما إذا كانت سالبة، حيث تصبح متأخرة زمنيا.
حينها، بدت الفكرة حلا مثاليا لمأزق الاضطراب الزمني، قبل أن تتوالى متاعبها في الظهور تباعا، فهذه المناطق الزمنية فتحت الأعين على مآزق شبيه بتلك التي تدعي حلها، فعلى سبيل المثال أسست لفارق زمني "غير منطقي"، فأكبر فرق بين المناطق الزمنية لبلدين على كوكب الأرض هو 26 ساعة، فالساعة الـ11 ليلا يوم الإثنين، في جزر هاولاند (UTC-12)، ستقابلها الواحدة صباحا يوم الجمعة، في جزر لاين (UTC+14).

إرباك عالمي
أدخلت الفكرة عددا من الدول في متاهات، تفتقد في كثير من الأحيان إلى أي منطق، فلدى روسيا مثلا 11 نطاقا زمنيا، ونجد في الولايات المتحدة الأمريكية أربعة نطاقات زمنية، فيما لا تملك الصين سوى واحدا فقط. وتبقى النيبال واحدة من أغرب المناطق الزمنية في العالم، حيث يتم ضبط التوقيت على ربع ساعة بعد الساعة المحددة، إلى جانب مدن وسط أستراليا والهند وإيران وبورما التي تعتمد نصف ساعة على الساعة المحددة.
فضلا عما يسبب ذلك من إرباك عالمي، لدرجة أن أصواتا تعالت مطالبة بضرورة إنشاء منطقة زمنية واحدة للعالم بأسره، فالمنطقي أن إشارة الساعة يجب أن تكون نفسها، فالساعة في بكين يجب أن تكون كذلك في برلين ونيروبي وبيونيس أيريس... فالعالم الآن يستخدم التوقيت ذاته، في الملاحة والتجارة والتعاملات المالية وغيرها، لذا يتعين على الجميع ودون استثناء اعتماد وحدة التوقيت. فضلا عما تسبب الفوارق الزمنية من مشكلات بشأن مواعيد اللقاءات والمؤتمرات عن بعد (الافتراضية).
لذلك يعتقد أنصار الوحدة الزمنية في العالم أن الحل المثالي ليس "اختراع" نطاقات زمنية، غير مجدية في نظرهم، بقدر ما يكون بترك هامش حرية أكبر فيما يتعلق بساعات العمل والجداول الزمنية المحلية، حيث سيكون تحديد ساعات العمل في انسجام تام مع الأوقات المحلية وفقا للشمس أو العادات الاجتماعية دون أدنى اهتمام بالساعة العالمية.

توقيت جديد
كان اعتماد فكرة التوقيت الصيفي أولى الحجج المؤيدة لأطروحة الوحدة الزمنية العالمية، التي تقوم على إضافة ساعة زمنية إلى التوقيت المحلي مطلع فصل الربيع حتى أواسط فصل الخريف، حيث تعود الساعة إلى التوقيت العادي. حاليا، تأخذ أكثر من 80 دولة في مختلف القارات بهذا النظام، وتنقسم في تطبيقه إلى بلدان يسري فيها على عموم مناطق البلد، وأخرى تحصره سريانه في مناطق بعينها.
أصول التوقيت الصيفي، حسب مؤرخين، أقدم من فكرة النطاقات ذاتها، فهناك قول ينسبها إلى بنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، الذي نشر رسالة ساخرة في مجلة فرنسية، عام 1784، يعرب فيها عن استغرابه من شروق الشمس بوقت طويل قبل استيقاظ الباريسيين، معتبرا أن شروقهم مع الشمس سيوفر على المدينة أموال شموع ساعات المساء المظلمة. وينسب آخرون الفكرة إلى عامل البناء البريطاني ويليام ويليت الذي عاين، خلال صيف 1905، عند ممارسته هواية المشي المفضلة لديه، أن كثيرا من الستائر ظلت مغلقة لحجب أشعة الشمس حتى وقت متأخر، ففكر في تقديم عقارب الساعة قبل بداية الفصل لإتاحة فرصة الترفيه والترويح لأكبر شريحة في المجتمع، فكتب عام 1907، مؤلف "إهدار ضوء النهار" ترويجا لفكرته.

لظى السياسة
عمليا، شرع في اعتماد التوقيت الصيفي بداية القرن الـ20، للحفاظ على الطاقة خلال الحرب العالمية الأولى. فكانت ألمانيا أول بلد يطبقه عام 1916 تلتها بريطانيا في العام نفسه، ثم روسيا عام 1917، ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكية، لتنشر الفكرة بعدها في بقية الأقطار. سطع نجم الفكرة بقوة في سبعينيات القرن الماضي، بسبب كارثة الطاقة، ما حدا دولا عدة إلى العمل بالتوقيت الصيفي. وأخيرا، عاد السجال بشأنه بين الرفض والتأييد، في عدد من دول العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي الذي أتاح بموجب قرار في مارس عام 2019، الدول الأعضاء حرية الأخذ به من عدمها، بالنظر لتأثيراته على صحة ونفسية الإنسان.
ختاما، نشير إلى أن التوقيت العالمي لم يسلم بدوره من لظى السياسة، فقد غيرت فنزويلا منطقتها الزمنية في ظل حكومة هوجو تشافيز دلالة على تقرير المصير السياسي، ورفضا لمشاركة واشنطن المنطقة الزمنية نفسها. ورفض الحزب الشيوعي الصيني الأخذ بقاعدة النطاقات الزمنية، في بلد مترامي الأطراف بفوارق زمنية تقدم بثلاث ساعات، تحفيزا للشعور بالوحدة الوطنية بين أبناء الجمهورية الشعبية. واضطرت إسبانيا إلى الالتزام بتوقيت أوروبا الوسطى، رغم كونها تتماشى جغرافيا مع توقيت العالمي المنسق، ما جعل الساعة البيولوجية لمواطنيها مضطربة، وذلك احتراما لشرعية القرار في بروكسل.

الأكثر قراءة