كيف نشأت الأزمة المالية.. وإلى أين ستذهب؟

أما وقد بدأ إصلاح العرض الأشد للمرض المالي العالمي، بخطط الإنقاذ الحكومية للقطاعات المصرفية الرئيسية، فمن المهم محاولة فهم الأسباب الأعمق للمرض بعيدا عن أعراضه.
ذلك أن الجميع يعترف الآن بأن هناك أخطاء وقعت وأن ممارسات لا يجوز أن تتكرر كيلا يشهد العالم ما عاناه من ذعر خلال العام الماضي 2008.
وليس المقصود هنا الحديث عن الأخطاء المباشرة القريبة، المتمثلة في تقديرات غير سليمة لمخاطر الاستثمار نتيجة جشع كبار رجال المال والأعمال، ولكن محاولة تلمس جذور المشكلة في النظام المالي العالمي.
ورغم أن الحكومات الرئيسية التي بادرت بخطط إنقاذ هائلة من أموال دافعي الضرائب، كأمريكا وبريطانيا، تتحدث الآن عن ضرورة إعادة النظر في اللوائح المنظمة لعمل القطاع المالي فلا يمكن توقع الكثير ما لم يطل إعادة النظر جذور الأزمة.
ثم إنه من المهم التنبيه هنا إلى أن من يشيرون على تلك الحكومات هم من أقطاب المال والأعمال ـ فهنري بولسون وزير الخزانة الأمريكي جاء من بنك استثماري كبير ممن عانت في الأزمة الأخيرة.
أما رئيس الحكومة البريطانية جوردون براون فجعل مستشاره الآن جرينسبان، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأمريكي وهو من اشد المدافعين عن إلغاء اللوائح والتنظيمات الرسمية لعمل الأسواق المالية.

القلق تسبب في خسارات كبيرة في أسواق العالم

ولأن أحد أهم جذور الأزمة يتعلق بمسألة الرقابة الحكومية على الأسواق والعمليات المالية، فسيكون لهؤلاء المستشارين تأثير في القرارات السياسية التالية التي تهدف إلى إصلاح النظام.

الأعمال والسياسة

تعود جذور الأزمة إلى أبعد من دورات النمو والتباطؤ التقليدية في الاقتصادات العالمية بقطاعاتها المختلفة، وربما بدأت تتشكل ملامحها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي. في تلك الفترة كانت العلاقة بين السياسة (ممثلة في الدول والحكومات) والأعمال (ممثلة في الأسواق والمؤسسات المالية الكبرى) قد وصلت إلى مرحلة جديدة من تطورها.
فبعدما كانت الأعمال داعما للسياسة فيما قبل الحربين العالميتين، على اعتبار أن الدول والحكومات تفتح أسواقا ومصادر مواد خام لتلك الأعمال، تطورت العلاقة إلى شبه ندية بين الاثنين.
ثم في المرحلة الأخيرة، ومع انطلاق العولمة وتفرد النظام الراسمالي في العالم تقريبا، أصبحت العلاقة بين السياسة والأعمال عكس البداية: أي أن السياسة تعمل على خدمة الأعمال وتوفير ما تحتاج إليه باعتبارها الضامن الأساسي لقدرتها على الحكم وتسيير شؤون شعوبها.

#2#

من هنا، ومع تراجع دور الدولة في الاقتصاد لمصلحة القطاع الخاص، تمتعت الأسواق والقطاع المالي عموما بحرية فائقة في إدارة شؤونها وأصبح الشعار السائد أن السوق له قوانينه وأنه قادر على تصحيح نفسه بنفسه دون تدخل.
وكما خفت القدرات الرقابية على عمل الأسواق المالية ونشاطات المؤسسات المالية في الاقتصادات الرئيسية، أصبح الهدف الأساسي لكل عمليات الإصلاح في اقتصادات الدول النامية هو كف يد الدولة وإطلاق يد السوق.

بورصات الخليج لم تنج من انعاكسات الأزمة

لكن بعض الاقتصادات الصاعدة الرئيسية لم تواصل الطريق إلى منتهاه، وظلت للدولة يد في العملية الاقتصادية بشكل واضح، كما هو الحال مع الصين والهند وروسيا وغيرها. ولطالما واجهت تلك الدول انتقادات واشنطن ولندن لهذا السبب بالتحديد.

الأموال السهلة

نتيجة عولمة رأس المال وفتح أسواق جديدة في العالم، مع عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي التزمت وصفات صندوق النقد الدولي في الأغلب، أصبح رأس المال ومشتقاته (سندات وأسهم وشهادات بمسميات عديدة) هدفا استثماريا في حد ذاته.
بمعنى أنك تستثمر مالا في مضاربات وعمليات مالية لتجني أرباحا بغض النظر عن أي أصول حقيقية يستند إليها هذا المال.
من هنا، ولكي تكون الأرباح خيالية ومع حيل خبراء الاستثمار بابتكار مشتقات للصناديق الخاصة وغيرها كل يوم، جاءت المغالاة غير المسبوقة في قيمة الأصول في العالم ومنها الأصول العقارية.
ونضرب هنا مثالا بسيطا، هو أنه حتى نهاية القرن الماضي كانت قيمة العقارات في العالم لا تتجاوز 40 تريليون دولار ثم تضاعفت فيما بين 2000 و2007 تقريبا لتصل إلى 70 تريليون دولار. وقس على ذلك بقية الأصول.
وهكذا أصبح هناك ما يعرف بالأموال السهلة، أي التي تم الحصول عليها في فترات وجيزة ودون عمل حقيقي أو تطوير في أصول حقيقية. وشجعت تلك الأموال السهلة على ارتكاب المغامرات الائتمانية التر تراكمت عبر ثلاثة عقود لتصل إلى الأزمة الراهنة.

ماذا بعد ?
بالطبع تحتاج تلك المغالاة الوهمية في قيمة الأصول إلى عملية تصحيح لإعادة النظام للعمل بشكل طبيعي، لكن إلغاء نصف قيمة أصول العالم كفيل بأن يؤدي إلى كارثة. وهذا ما أصاب الحكومات بالذعر والهلع.
كما أن شطب الأموال السهلة، التي لا تقابلها قيم حقيقية، من النظام المالي العالمي يمكن أن يضر ببقية القطاعات التقليدية في الاقتصاد ـ ناهيك عن تأثيره الرهيب في إنفاق المستهلكين في الاقتصادات المتقدمة.
ولأن بعض تلك الاقتصادات يشكل فيه الإنفاق الاستهلاكي أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي السنوي، فإن المغامرة بهبوط شديد في ذلك الإنفاق ستعني ركودا طويل الأمد قد يصل إلى كساد تام.
لذا جاء التدخل بأموال دافعي الضرائب لإنقاذ القطاع المالي، وبهدف معلن هو إعادته للعمل وتفادي انهياره تمهيدا لعملية إصلاح طويلة المدى.
لكن ذلك التدخل الحكومي في حد ذاته إنما يتعارض جذريا مع أي إمكانية للإصلاح قد تقوم بها السلطات، ما لم يتم إعادة ترتيب العلاقة بين السياسة والأعمال.
كما أن الإنقاذ السياسي للقطاع المالي أنما أسهم بشكل غير مباشر في "ترحيل" بعض العلل الأساسية التي يعانيها النظام إلى وقت لاحق. ناهيك عن أنه عطل عملية تصحيح كاملة للأسواق تتخلص فيها من الأموال السهلة الناجمة عن مغالاة غير حقيقية في قيمة الأصول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي