إشكالية التحليل في السياسة الدولية (2)

لقد ترتب على مشاعية أحداث السياسة الدولية؛ مشاعية التحليل (فيها) لدى عامة المثقفين، وكذلك لدى عامة الناس. وأصبح كل يدلي بدلوه فيها، بغض النظر عن كونه متخصصا، أو كونه, حتى على الأقل, مطلعا على بعض أساسيات التحليل. بهذا أصبح بإمكان أي متتبع للأحداث الدولية أن يدعي –ويعتقد في أغلب الأحيان- بجدارته وبحقه في تحليل الشأن الدولي. وكذلك بحقه بإتباع أية طريقه (أو أداة) يراها مناسبة، مدركاً أو غير مدرك بأن هناك علما وأصولا ذات طبيعة متخصصة. بل لقد وصل الأمر عند البعض أن يجعل من تحليلاته مجرد مطية يمتطيها لتحقيق رغباته – وفي الغالب لإثبات أرائه- بغض النظر عن صواب أو خطأ استنتاجاته. نحن هنا لا نمانع – وبالطبع لا نحرم- هذا التوجه بأي شكل من الأشكال، ولكن نقول إن ذلك التوجه يدور حول لب القضية التي أدت إلى إيجاد هذه الأزمة.
المقارنة بين مراحل تطور علم العلاقات الدولية في أوروبا ووضع التحليل -الراهن- في الوطن العربي قد يعطينا فهما أشمل للجوانب المتعددة لهذه الأزمة، خصوصاَ أن هناك أوجه شبه فيما حدث في أوروبا في بدايات القرن الماضي وما يحدث هنا اليوم.
فقد كان الاهتمام - في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى- منصباً على "دراسة التاريخ الدبلوماسي", حيث كانت دراسة السياسة الدولية تعتمد على تتبع ورصد وتدوين الأحداث التاريخية والاستنتاج بناء عليها؛ وبهذا لم تكن تلك الاستنتاجات تخرج عن إطار المنهجية التاريخية بشكل عام. ولم يكن هناك بالتالي أطر نظرية للتحليل، بل إن الاعتماد كان متركزاً على مخرجات تقارير التاريخ الدبلوماسي، لا أكثر.
وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومع بداية انتشار وسائل الإعلام التقليدية (الكلاسيكية)، خصوصاً الصحف اليومية والراديو أصبح الاهتمام يتحول إلى "دراسة الأحداث الجارية". ولا سيما أن أحداث الحرب والتطورات اللاحقة لها قد جعلت العامة تهتم بتطورات السياسة الدولية بشكل لم يسبق له مثيل. وبهذا أصبح فهم السياسة الدولية منصباً على تحليل أبعاد تطورات الأحداث الجارية بشكل عام.
ومع اختلاف العصر بين مرحلة الثلث الأول من القرن الماضي في أوروبا والمرحلة الحالية لدينا، إلا أن لا أحد ينكر وجود الاهتمام والاعتماد الواضح على المنهج التاريخي في تحليلات عدد كبير من المثقفين والعامة في منطقتنا. بجانب هذا, فإن التقدم النوعي في البث التلفزيوني الفضائي (الذي تلازم مع تكرار الأحداث الساخنة) قد أدى إلى ازدياد شعبية تحليل الأحداث الجارية بشكل لافت للنظر. بهذا أصبح فهم وتحليل السياسة الدولية – في منطقتنا- لا يخرج كثيراً عن الأطر التي كانت سائدة في أوروبا قبل أكثر من 70 عاماً خلت.
يبقى القول إن تطور دراسة وتحليل السياسة الدولية في أوروبا لم يقف عند المراحل التي أسلفنا ذكرها؛ بل لقد أتت مراحل جعلت الوضع لديهم يتجاوز مراحل إشكالية التحليل لدينا؛ وهذا ما سنتطرق له في المقال المقبل, بإذن الله تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي