النجاحات الصغيرة

هل رأيتم قطرات المطر كيف تجتمع على سطح الأرض، وكيف تكوّن هذه القطرات الصغيرة جدولاً صغيراً يجري جَذِلاً معلناً نشوته وفرحه وليلتقي مع الجداول الأخرى على موعدٍ قد ضُرِبَ في السماء سلفاً، ليكونوا سيلاً قوياً يخترق فجاج الأرض باعثاً الحياةَ في جنباتها.
إن النجاحات الصغيرة أشبه ما تكون بهذه الصورة البديعة، فالنجاحات الصغيرة هي التخصص الدقيق وإتقان ما أوكل إليك عمله، والإبداع فيه، أياً كان ذلك العمل الوظيفي، ومهما صَغُرَ في نظر البعض.
كم نحن بحاجةٍ إلى النجاحات الصغيرة، وإنه لن يتأتى لنا النجاح الكبير الذي ننشده جميعاً ما لم نحقق النجاحات الصغيرة التي هي بمثابة قنوات وجداول تصب في نهر النجاح الكبير.
وفي تقديري أن مفتاح النجاح هو التركيز ولا نعني بالتركيز الانتباه والتحفز، إنما التركيز هو الإيمان بالقضية أو العمل الموكل إليك وعدم التشتت في التطلعات أو المشاريع، وجعله نصب عينيك وحديث خاطرك في أوضاعك المختلفة، والتركيز هو نتاج طبيعي للقناعة الفكرية والإيمان بالقضية، ثم إن هذا التركيز فضيلة يجد من جربه المتعة والإبداع ولذلك قد يعجب البعض من جَلَد بعض المفكرين أو المؤلفين في القراءة أو التأليف أو سير المخترعين الذين أمضوا كل حياتهم في المعامل والمختبرات، ولذا تجد بعض المفكرين قد أمضى جل عمره في تأليف كتاب أو إعداد موسوعة ومن الأمثلة ما تذكر كتب التاريخ أن الإمام البخاري يستيقظ في بعض الليالي أكثر من عشرين مرة ويوقد المصباح ليكتب فائدةً حديثية أو يدون شاردةً لغوية، ومثل ذلك ما يذكر أن مخترع المصباح الكهربائي أديسون أجرى قرابة عشرة آلاف تجربة ليظفر بنجاح واحد وليخرج للدنيا هذه المصابيح التي ننعم بضوئها.
وها هو الزمخشري صاحب تفسير الكشاف يصور بكل دقة الحالة النفسية ومدى الارتياح الذي يتحلى به كل من نال فضيلة التركيز وهو يعبر عن نفسه في تركيزه على القراءة والبحث والتأليف في هذه الأبيات الجميلة
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طرباً لحل عويصة أحلى وأشهى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها أحلى من الدوكاء والعشـاق
وألذ من نقـر الفتاة لدفـها نقري لألقي الرمل عن أوراق
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذلك لحـاق

إن التركيز فضيلة تحتاج من يربي الناشئة عليها ويشجعهم على التحلي بها يبرز دورها في البحوث والدراسات الأكاديمية والتي متى ما استطاع الأستاذ أو المشرف تشجيع طلابه وتحفيزهم على تبني أفكار يؤمنون بها، هنا فقط يأتي الإبداع وتأتي النتائج المؤملة.
إنه لا يمكن تصور هبوط نجاح سحري هكذا فجأة على الأمم لتتقدم، هذا وهم لن يتحقق، كما لن يتحقق النجاح بتميز فرد واحد، بل لابد من تحقيق نجاحات صغيرة متعددة تحقق النجاح الكبير.
هل سألت نفسك يوماً ما المهام المنوطة بك في هذه الوظيفة أو هذه المسئولية ؟،هل سألت نفسك يوماً ما الأعمال التي يجب أن تنجزها غداً؟ هل دونتها في وريقة صغيرة؟ أو في روزنامة التقويم أمامك. هل تجيد العمل على الحاسب؟ هل فكرت في تعلمه والدربة عليه؟
إذا تقرر هذا المبدأ، وهذا المصطلح، مصطلح النجاحات الصغيرة - ولا مشاحة في الاصطلاح - فلننظر في هذا الأمر من عدة جوانب، منها أن مبدأ النجاحات الصغيرة أصلٌ أصيل في شرعنا. ففي الحديث "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته …. الحديث" وهو في صحيح البخاري. إنك لا تعجب من ذكر الإمام ومسئوليته فهي واضحةٌ ظاهرةٌ للعيان، ولكن تعجب من ذكر مسئولية الخادم في آخر الحديث قال صلى الله عليه وسلم "والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته" نعم إنها النجاحات والإتقان الذي ينطلق من القاعدة ليتعانق مع قمة الهرم.
ثم تأمل نصوص الوحيين القرآن والسنة وتواترها في الحث على الإتقان والإحسان حتى غدا الإحسان أعلى المراتب. وإن شئت مزيد بيان فتأمل حديث "إن الله قد كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.. الحديث" صحيح مسلم.
الذبح وهو أمر عدمي بحت إلا أننا مأمورون فيه بالإحسان والإتقان.
وهما فيما سواه من المسئوليات أولى وأحرى. إذا تقرر هذا أليس الأجدر والأولى بناء أن نعيد النظر في أداء ما أنيط بنا من مهام ومسئوليات.
لكن ثمة معوقات لهذه النجاحات أهمها في تقديري - وربما تطفلت على موائد الإداريين - - عدم التوصيف الوظيفي الدقيق، إذ يفضي هذا إلى هلامية المسئوليات وانسياح الواجبات، وبالتالي ضياع مبدأ المحاسبة والمسئولية، ولأهمية التوصيف الوظيفي نجد كبريات الشركات في الصناعات والتخصصات المختلفة ربما أنفقت الملايين لشركات مختصة في الهيكلة والتوصيف الوظيفي والإداري.
ومن أبرز معوقات النجاحات هو التسلق الوظيفي والتزلف للمرؤوسين، وهذا من أبرز الأدواء في مجتمعات العالم الثالث أن هناك ثلة من الناس ليس لديها من القدرات سواء التملق والتزلف للمرؤوسين، وإجادة فن (مسح الجوخ)، والمحبط للآخرين أن هؤلاء يحققون مكاسب يراها المخلصون، ما يفت في عضدهم ويوهن حماسهم للنجاح والإتقان، ثم تجد من هؤلاء المتسلقين النقد والتهكم لكل جاد ومخلص، ما يقتل الإبداعات، ويحبط المعنويات، وهكذا هم أعداء النجاحات.
ومزيداً من النجاح للجميع.

خاطرة:
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي