بشأن توصيات التحليل المالي والاستثماري
لكل مهنة من المهن أخلاقيات وقواعد عامة يجب اتباعها والالتزام بها، ليتوافق سلوك المهنة مع الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تنظم المهنة سواء أكانت في الطب، أبحاث الجينات، أو حتى ما يهمنا هنا وهو التحليل المالي والتوصيات الاستثمارية. إن عدة عوامل تتداخل وتحدد مدى الالتزام بأخلاقيات المهنة والالتزام بالمسؤولية تجاه الأشخاص ذوي العلاقة، إذ إن الالتزام قد يكون مرده احتمال تعرض المحلل المالي أو مصدر التوصيات إلى المقاضاة من قبل المتضررين، أو أن يتم إدراج المحلل المالي والاستثماري أو مدير المحفظة إلى التشهير والإدراج على قائمة قد تسمى "توصيات المحللين ومدى صحتها وتوافقها مع النتائج المتحققة"، أو غير ذلك.
ومن تجارب الأسواق المالية العالمية، غالباً ما تبدأ المراجعة والتساؤل عن الخطأ الذي حدث بعد الأزمات ليتم تشخيص الأزمة المالية والاقتصادية تشخيصاً دقيقاً يحمل كل طرف مسؤوليته، ليتم تصحيح الخطأ وضمان عدم تكراره بديناميكية تجعل الأسواق تصحح نفسها وتستفيد من أخطائها. فإذا تكرر الخطأ ثانية، نادراً أن يكون السبب قد اكتشف من قبل، وإن كان كذلك فمن النادر أن يعاد بالقسوة نفسها والنتائج المؤلمة. ومن الأزمات الأبرز في الأسواق المالية هي الانهيارات وفقاعات السوق المالية، التي تأخذ حيزها من البحث والتمحيص وتوجيه اللوم وتحميل المسؤولية لكل طرف ساهم في الفقاعة أو في التغرير بالمستثمر والتسبب في خسارته.
فعلى سبيل المثال، بعد تضخم فقاعة شركات الإنترنت في الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر التسعينيات وانفجارها في بداية الألفية الثانية، بدأ الأكاديميون، المحامون، والجهات التشريعية والتنظيمية بتقليب الأوراق المتراكمة ومحاولة الإجابة عن سؤال "كيف ولماذا حدث هذا، وما هي الأطراف المسؤولة؟". لا ريب أن إجابة سؤال كهذا ستركز على كل من السياسة النقدية، السياسة المالية، الجهة التشريعية والتنظيمية للسوق، حالة الاقتصاد الكلي وتوجهاته، واقع السوق، الشركات المدرجة، البنوك الاستثمارية، الإعلام الاقتصادي، والمستثمرين مؤسسات وأفرادا.
ومن المهم الإشارة إلى أن العوامل السابقة التي تساهم بتكون الفقاعة وانهيار السوق في الأسواق المتقدمة كالسوق الأمريكية لا تعمل بالدرجة نفسها من المساهمة في الأسواق الناشئة كالسوق السعودية نظراً لاختلاف هيكل الأسواق الناشئة عن الأسواق المتقدمة واختلاف طبيعة المتعاملين، فالمستثمرون المؤسسون وصناديق الاستثمار هي المسيطرة على التداول في الأسواق العالمية عالية الكفاءة كالسوق الأمريكية بينما يهيمن الاستثمار الفردي على السوق السعودية، لذلك فترتيب المسؤوليات والأسباب الكامنة خلف سلوك مجاميع المستثمرين يجب أن تبنى على طبيعة السوق بمحاولة تفسير الأسباب الدافعة لتضخم الأسعار وسلوك المستثمرين الذي ختم بانهيار مؤلم.
تبعاً للتقديرات والتقارير الصحافية، فقد ارتفع عدد المتداولين الأفراد في السوق السعودية من نحو ربع مليون مستثمر في عام 2003م إلى أكثر من ثلاثة ملايين مستثمر عام 2006م، أي أن ارتفاع عدد المتداولين كان في معظمه من الأفراد. وقبل عام 2003م كانت الثقافة الاقتصادية ومواردها محدودة، فبجانب افتقار المكتبة العربية إلى الكتب الاستثمارية المتخصصة، فالقنوات الفضائية المتخصصة في الاقتصاد، أو تلك التي تولي اهتماماً للأسواق المالية العربية كانت نادرة جداً، أما الصحافة فلم يكن هناك من يهتم بالموضوع الاقتصادي غير عدد محدود من الصحف المتخصصة، أما باقي الصحف السعودية فقد كانت تستخدم صفحة الاقتصاد وكأنها ميدان لإعلانات الشركات وأخبار وكالات الأنباء العالمية. إذن، فالصورة العامة كانت إقبالاً شعبياً على سوق الأسهم بتزامن مع حاجة ملحة للثقافة الاقتصادية والاستثمارية التي لم يكن هناك تجاوب فوري معها نظراً لتسارع الأحداث الاقتصادية. وفي الشؤون المالية والاستثمارية، أخبركم، ليس هناك مجال لالتقاط الأنفاس.
من المتفق عليه لدى الكثير أن الإعلام المرئي كبرامج التلفزيون الاقتصادية والمحللين للسوق السعودية سواء على الفضائيات أم في منتديات الإنترنت قد تمكنوا من سد ثغرة حاجة المستثمرين لبوصلة وموجه لقراراتهم الاستثمارية ونشاطاتهم في المضاربة - بغض النظر عن المصداقية والحرفية، حتى أصبح المؤشر يتذبذب تبعاً لتصريح من محللين لا يذكرون سبباً أو منهجيةً لتوصياتهم وتوقعاتهم، ففي المد وارتفاع الموجة ترتفع جميع المراكب، ولكن عند الجزر وانخفاض الموجة تتحطم المراكب الضعيفة وتبقى المراكب الكبيرة المعتمدة على أساسيات قوية، هذا كان حال مصدري التوصيات من بعض المحللين الماليين. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أني لا أعمم تضليل توصيات بعض المحللين وتوقعاتهم غير المدعمة بإثباتات على جميع المحللين، فالتحليل المالي في النهاية يرتكز في جانب كبير منه إلى التقدير الشخصي الذي يجب أن يبنى على أساسات صلبة علمية وواضحة للمستثمرين.
ويستحضرني هنا فضيحة الذراع الاستثمارية لـ "سيتي جروب"، "سالمون سميث بارني"، التي تمحورت حول رفع تقييمات شركات الاتصالات خلال فقاعة الإنترنت في أواخر التسعينيات في أمريكا وحتى عام 2001م في جهد من مصرفيي الاستثمار للحفاظ على العملاء واستمرار تعاملهم معهم من خلال رفع التقييمات، إلا أن المدعي العام لنيويورك تمكن من إدانتهم لتغريرهم بالمستثمرين وتشجيعهم المستثمرين على الاحتفاظ بالأسهم في وقت الانهيار. وكمثال آخر، فإن توصيات المحللة المالية ماري ميكر في "مورجان ستانلي" كانت قد خدعت المستثمرين للاحتفاظ بأسهم شركات كانت هي قد قادت عمليات طرحها للاكتتاب العام الأولي، مما كبد المستثمرين خسائر كبيرة نتيجة لتوصياتها للاحتفاظ بالأسهم فيما بعد، وقد تم عقابهما وشركاتهما. بعد هذا، نستنتج أن تضارب المصالح والتوصيات ورسم صورة غير واقعية للمستثمر هي من الأمور التي تعد مغررة ومخادعة للمستثمر وتستلزم القضاء عليها لضمان مسيرة السوق المالية في طريق تحقيق هدفها المتمثل في توفير التمويل لمن يستخدمونه بكفاءة من قبل المستثمرين الذين يستثمرونه بكفاءة أيضاً.
وفي السياق ذاته، وبالعودة إلى سوق الأسهم السعودية، فقد نادى البعض بأن الطرح الأولي لشركة كيان سوف يمتص سيولة السوق ويهوي بالسوق إلى قاع جديد، وبأن الاكتتاب في هذا الطرح الأولي من قبل المستثمرين، بل إن عملية الطرح الأولي لهذه الشركة العملاقة غير مجد!!! لدي هنا عدد من التساؤلات التي أعتقد بمنطقيتها. هل أن السيولة التي ستضخ في أي اكتتاب يجب أن تأتي من استثمارات في السوق، ليضطر المستثمر إلى تسييل محفظته ليكتتب بخمسين سهما في شركة كيان قيمتها 500 ريال؟ هل أن سوق الأسهم نظام مالي استثماري مغلق ليس للمدخرات والسيولة والتسهيلات مدخل إليه؟ هل أن تقييم اكتتاب أولي في شركة واعدة تبعاً لتحليل الطلب العالمي على منتجاتها والميزة النسبية التي تتمتع بها يبنى على تقييمات العرض والطلب على تداول الأسهم الأخرى فقط ضمن نظام مغلق لا يأخذ حساب باقي المستثمرين في السوق؟ هل إن هدف السوق المالية تنويع خيارات المستثمرين، تنويع استثماراتهم، والارتقاء بالاقتصاد أم رفع المؤشر؟ والسؤال الأهم، هل ربح أم خسر بعض صغار المستثمرين حين استمعوا إلى تحليلات لا علمية تدعو إلى إيقاف عمليات الطرح الأولي لتأثيراتها السلبية؟
إن عمليات الطرح الأولي التي تنتهجها هيئة السوق المالية هي السياسة المثلى، دون شك من وجهة نظري، التي يجب اتباعها فوراً وعلى المديين المتوسط والطويل، للوصول إلى سوق كفؤة ومستثمرين يتطلعون لتعويض خسارة الدخول في السوق وقت تضخم الأسعار وما زالوا يتطلعون للتعويض الأفضل. ففي عمليات الطرح الأولي المتعاقبة إضافة إلى عمق السوق وسيولتها، وتنويع لخيارات المستثمرين، بجانب إعادة التوازن لقطاعات كانت مغيبة عن السوق كقطاعي التأمين والاتصالات، وغيرها، إلا أن المؤمل أن يتم زيادة النسب المطروحة للاكتتاب وتوفير أبحاث الاستثمار المتخصصة لتقييم مختلف الاستثمارت. إن رفع الكم والكيف لأبحاث الاستثمار لا يتأتى إلا بالترخيص للمزيد من البنوك الاستثمارية وشركات الوساطة التي ستحتم عليها المنافسة تقديم التقارير والتوصيات المسؤولة التي تنال ثقة المستثمر وتثري عملية اتخاذ القرار.
وختاماً، لتوصيف حال سوق الأسهم السعودية وما حل بها، هناك الكثير من التقاطعات التي يجب أن تحل، وأن نبدأ بثقافة المستثمر والقوى المؤثرة فيه هو المدخل لتناول العوامل الأخرى. فالسوق السعودية تحتاج إلى تقارير يومية وأسبوعية وشهرية عن حال السوق وتوقعات شركات الوساطة والبنوك الاستثمارية، لتتضمن في تقييمها عددا مختارا من الأسهم لتقوم بتوصياتها المبنية على أبحاث تذكر منهجيتها العامة أو الأسباب الرئيسية للتوصية بتجميعها، شرائها، تصريفها، أم بيعها، بما يعطي المستثمر الثقة. وإن تقارير المؤسسات والبنوك الاستثمارية ستكون حائط صد ضد الإشاعات والتقلبات غير المنطقية، وستشكل معيار تقييم للمستثمرين عموماً. من هنا نجد أن العمق والسيولة التي تتجه إليها هيئة السوق المالية مستخدمة الترخيص للمزيد من المتعاملين في المصرفية الاستثمارية لها الأثر الأكبر في السوق، وأرى أننا سنجد سوقاً ملأى بالمعلومات والبيانات لتكون جاذبة للمستثمر الحصيف الذي يعتمد على المعلومة، وتتمتع بالشفافية وتتوافر فيها التقارير التي يتطلع إليها المستثمر، فرداً أكان أم مؤسسةً.