العرض والطلب.. تشريع للجشع والنجش

[email protected]

هذا ليس حديثا اقتصاديا حتى ولو أوحى العنوان بذلك، بل تناول له علاقة بالتعامل من الزاوية الإنسانية البحتة مع قانون العرض والطلب الذي هو قانون اقتصادي أصيل لا اعتراض عليه من حيث المبدأ، وتفسيره المعروف هو أنه كلما زاد الطلب زاد السعر والعكس صحيح أي كلما زاد العرض قل السعر، ولا تثريب في أن يقوم التعامل في السوق وفق هذا القانون ولكن في حدود المنطق والمعقول وبما لا يتحول إلى قانون يشرع للاستغلال والمعروف إسلاميا بالنجش في البيع والشراء الذي نهى عنه رسولنا عليه الصلاة والسلام، كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومن أمثلته ما يقوم به المضاربون، قبل نظام التداول الجديد الذي نأمل نجاحه، في سوق الأسهم من عرض وهمي لأسهم ما بغرض رفع السعر لاستغلال قاعدة العرض والطلب في غير وجهها الصحيح، أو حين يرفع التجار أسعارهم مئات النسب بحجة المواسم وكأنه مباح فيها استغلال الناس بلا حدود باسم قانون العرض والطلب أيضا.
مع أن قاعدة العرض والطلب قاعدة اقتصادية تهدف لإيجاد توازن في السوق، إلا أن تطبيق هذا القانون في سوقنا يعتريه صورة من صور الاستغلال والجشع أو النجش فعلا، وذلك حينما تستغل زيادة الطلب على سلعة أو خدمة ما فترفع أسعارها، وحين يقل الطلب فإن الأسعار تهبط فقط إلى مستواها العادي وليس دونه، وهذا يحدث في المناسبات أو ما يسمى المواسم حين تلتهب أسعار الخدمات المرتبطة بها بما يفوق الحد المعقول للزيادة في أسعارها، وأمامنا مثلان يوضحان المقصود، المثل الأول، ارتفاع أسعار الشقق والاستراحات والشاليهات وأماكن الفسحة في الأعياد التي تتضاعف أسعارها لأكثر من 500 في المائة، فما يكون سعره العادي 500 ريال في اليوم يقفز إلى آلاف الريالات، والمثل الآخر أدهى وأمر، لأنه مرتبط بمناسبة دينية تتحول إلى "تجارة دينية" أي استغلال لفترة تعبد لله يصل, والعياذ بالله إلى نجش فاحش، وأقصد بذلك شهر رمضان خاصة العشر الأواخر منه، حيث تصل أسعار السكن حول الحرم مبالغ فلكية غير معقولة، وهذا ليس قانون عرض وطلب بل استخدام له في عملية استغلال بشعة، وقد يجادل البعض أنه ليس في ذلك استغلال لأن المستهلك ليس مجبرا في هذه الحالة فهو يستطيع أن يعيّد بدون شاليه وأن يتعبد لله بدون أخذ شقة أو غرفة في مكة المكرمة أي "اللي ما عندوش ما يلزموش" كما يقول إخوتنا المصريون، وهذا صحيح ولا غبار عليه إلا أن المسألة ليست في الذي عنده ومن ليس عنده بل في المبدأ ذاته، وهو مبدأ رفع الأسعار بهذا القدر، نعم حينما يكون الطلب أكثر من العرض لا بد أن ترتفع الأسعار منطقيا ولكن بنسبة معقولة، فزيادة الطلب سترفع تكلفة التشغيل ولا شك وهنا لا بد أن تكون الأسعار أعلى من أسعار الفترات التي تقل فيها التكلفة، وأعتقد أن من المنطقي أن ترتفع الأسعار 50 وحتى 100 في المائة، ولكن حين تصل إلى ما بين 500 و1000 في المائة، فالأمر هنا ليس عرضا وطلبا بل جشع واستغلال وحتى نجش، وأظن أن وزارة التجارة تسمح برفع أسعار السكن المفروش في المواسم إلى 70 في المائة، ولا أعتقد أن هناك من يتقيد بذلك.
صحيح أننا نطبق الاقتصاد الحر وأن الدولة لا تتدخل في تحديد الأسعار، ولكن هناك فرق بين حرية التجارة وحرية الاستغلال، ففي الدول الرأسمالية هناك حرية اقتصادية كاملة إلا أن هناك آليات ضبط عديدة حتى لا تتحول إلى استغلال، فالدول الرأسمالية لا تسمح بأن ترتفع الأسعار فوق الحد المعقول في المواسم، إلا أن أهم آلية هي وعي المستهلك، فالمستهلك هناك يمارس دوره الاستهلاكي بحيث يرفض أن تستغل حاجته، ولذلك فالتجار لديهم يدركون أن رفع الأسعار فوق المستحق سيواجه بقلة الإقبال من المستهلكين حين يمتنعون عن شراء السلعة أو الخدمة، ولذا يحرص التجار على التنافس بتقديم العروض المغرية لكسب الزبائن، أما لدينا فالتجار لا يتنافسون في الأسعار بل يتكتلون بوضع تسعيرة متقاربة لفرض أسعارهم على المستهلكين، ومستهلكونا وبكل أسف, يتسابقون على شراء السلعة أو الخدمة مهما كان سعرها، وأذكر في هذا السياق أنه قبل عامين ارتفعت أسعار الشاليهات في العيد في جدة إلى ستة آلاف ريال في اليوم الواحد. وحين سئل أحد ملاكها عن شكوى المستهلكين ومطالبتهم بتدخل الجهات المسؤولة قال: كيف ذلك وهم يبحثون عن وساطة للحصول على شاليه بأي سعر؟! ومعه حق, مع مستهلكين يفرطون بحقوقهم بهذا الشكل، وهذا ينطبق على أسعار السكن في مكة المكرمة في شهر رمضان، فالبرغم من أسعاره التي تصل إلى عشرة آلاف في اليوم ويفرضون عليك أن تستأجر كامل الأيام العشرة الأخيرة، لا تجد سكنا فارغا.
قلنا إنه لا اعتراض على التعامل وفق العرض والطلب في تحديد الأسعار، ولكن تركه يستخدم في استغلال حاجة المستهلك بهذا الشكل غير المقنن بحد معقول يوفق ما بين ارتفاع تكلفة التشغيل بسبب كثرة الطلب وبين مراعاة قدرة المستهلك بفرض أسعار غير معقولة في تسابق على استغلاله، نكون أمام فوضى تجارة لا حرية تجارة، ومع أن قاعدة العرض والطلب من صلب حرية التجارة والاقتصاد، إلا إنني أرى فيها جانبا استغلاليا خصوصا حينما يترك تطبيقها دون ضوابط تحمي المستهلك من تحولها إلى عملية استغلال فاضح، والمطلوب لمواجهة ذلك تقنين نسب رفع الأسعار في المواسم، وقبل ذلك وبعده وجود وعي استهلاكي لدى المستهلك بحيث يمارس دوره في الامتناع عن شراء سلعة أو خدمة تتحول إلى عملية ابتزاز لحاجته واستغلال لها، لا أن يندفع المستهلكون ويتسابقون على الحصول عليها وكثير منها يمكن الاستغناء عنها في أوقات المواسم واللجوء إلى بدائل غير مكلفة وتؤدي الغرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي