عولمة الهيمنة

[email protected]

"صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ" مقولتان شاعتا بعد انتهاء الحرب الباردة أو الصراع العقائدي الذي كان قائما بين الشرق بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق وكتلته الشيوعية، وبين الغرب ممثلا في الولايات المتحدة قائدة ما يسمى بالعالم الحر، وجاءت هاتان المقولتان تعبيرا عن شعور الغرب بالانتصار الكاسح الذي حققه بلا حرب تقليدية كما وصف ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون في كتاب بعنوان "نصر بلا حرب" والذي كان من نتائجه سقوط الإمبراطورية السوفيتية وتفكك الأنظمة الشيوعية والتحاقها بالنظام الغربي بعد إلحاق هزيمة سياسية واقتصادية وثقافية بالشيوعية, وعلى الرغم من خفوت هاتين المقولتين في السنوات الأخيرة، إلا أنهما ودون أدنى شك بقيتا ركيزة لسياسة غربية وبالتحديد أمريكية, وإن كانت غير ظاهرة ومعلنة ترمي لاستكمال انتصار الغرب وبالذات الولايات المتحدة على بقية العالم من خلال دحر كل الثقافات والحضارات الأخرى وإذابتها في الثقافة الغربية على النمط الأمريكي، فمقولتا "صراع الحضارات" و"نهاية التاريخ" لم تكونا فقط مجرد نظريات سياسية بقدر ما كانت وما زالت انعكاسا لشعور أمريكي بالتفوق ورغبة محمومة في سيادة الثقافة الغربية بالنمط الأمريكي على بقية الثقافات الأخرى, وخاصة التي تمثل عليها خطرا من منظورها، ويعكس ذلك ما تفاخر به أحد المفكرين الأمريكيين بأن القوة الأمريكية دحرت النازية والفاشية وقضت على الشيوعية في القرن العشرين وسوف تنهي الخطر الإسلامي في القرن الواحد والعشرين، ومن هنا برزت بعد سقوط المعسكر الشرقي مقولة بأن العدو القادم للغرب هو الإسلام.
ما سماه نيكسون "نصر بلا حرب" الذي تمثل في إسقاط الاتحاد السوفيتي باستمرار إنهاكه بالحصار العسكري والسياسي والاقتصادي والإعلامي، يطبق حاليا ضد الإسلام من ناحية استخدام الحصار نفسه ولكن بأساليب أخرى، وهذه الأساليب تستهدف هدم أسس الثقافة المقصود إسقاطها وإضعاف مكوناتها الأساسية وخلخلة الإيمان بها، أما أدوات هذه الحرب الموجهة ضد الإسلام اليوم لإضعافه تمهيدا لنزع قوته وتحويله إلى دين ضعيف يمارس كطقوس فقط في المساجد دون أن تكون له قواعد ثقافية تؤسس لأمة إسلامية، فهي المؤسسات الدولية من منظمات وجمعيات ووكالات واقعة تحت هيمنة أمريكية لا تحتاج إلى أدلة وبراهين والتي باتت تستخدم في وقتنا الحاضر للتدخل في الشؤون الداخلية الصرفة للدول والشعوب بغرض فرض ثقافة عولمة يراد لها أن تكون ثقافة عالمية موحدة لها الأولوية على ما عداها من قيم وثقافة أديان أخرى، وليس خافيا أن هذه العولمة وإن أخذت الوجه الاقتصادي إلا أنها تعبر عن قيم أمريكية بمفاهيم يراد لها أن تسود من خلال عولمة العالم، وباسم العولمة يتم تفكيك الثقافات التي تمثل ممانعة لثقافة غربية أمريكية وذلك بعزلها عن جذورها وقطعها عن أصولها.
على هذه الخلفية يمكن تفسير وفهم بيان (لجنة الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز) الغريب والعجيب حين وجه نقدا بل واتهاما للمجتمع السعودي بأنه تمارس فيه الوصاية على المرأة السعودية من قبل ما سمته هيمنة الرجل، ولم يجد مثالا على ذلك إلا منع قيادة المرأة للسيارة كدليل على هذه التهمة المسيئة للمرأة السعودية قبل غيرها، ثم انتقل سعي هذه اللجنة لإبراز تهمة التمييز في المجتمع السعودي نقلة عجيبة حين ذكر بيانها ما تتعرض له العمالة الأجنبية في المملكة من تمييز لا إنساني، ومرد الدهشة من مثل هذا البيان هو أنه إضافة لعدم موضوعيته وافتقاده للمعايير المحترمة، يعتبر تدخلا سافرا في شأن داخلي بحت لا يحق لأي جهة التدخل فيه إلا إذا كانت تمتلك حق وصاية كاملة، وهو ما يعكس حقيقة أن توظيف مؤسسات المجتمع الدولي في تطبيق ثقافة عولمة ذات رؤية محددة لم يعد خافيا على أحد، وهذا التوظيف يتضح في التركيز على دول وثقافات بعينها دون غيرها كالمملكة, وقيم إسلامية وفق معايير غربية بحتة، وهو ما يدفع إلى الشك في مصداقيتها وأغراض تدخلها في أدق شؤوننا وما يمس قيمنا الدينية بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان الذي يمارس هنا ويغفل هناك، ولا ندري أيهما أكثر إلحاحا من وجهة نظر حقوق الإنسان والتمييز هل هو ما يسمونه قضية المرأة السعودية أم إهدار إنسانية الفلسطينيين وهم يحاصرون ويجوعون كما هو حادث في غزة اليوم..!!؟
المقارنة هنا تؤكد لنا أن المؤسسات الدولية في ظل سيطرة غربية وهيمنة أمريكية عليها تستخدم من أجل زعزعة قيم الثقافات المستهدفة باسم حقوق الإنسان وٍإعطائها الذريعة للتدخل في شؤون الدول وقيم الأديان بحجج مثل حماية هذه الحقوق والدفاع عنها, متخطية بذلك خصوصياتها ومكوناتها. ويجيء التركيز على المملكة هنا كونها تمثل الجبهة الإسلامية الأكثر منعة, وضد الإسلام كدين لأنه الأشد صلابة ومقاومة, بهدف اختراق العالم الإسلامي وإضعاف أسس قيمه الثقافية بل وهدمها لإنهاء صراع الحضارات وتأكيد نهاية التاريخ بتسيد الرأسمالية اللبرالية، والمؤسف هو أننا نسهل لهم ما يريدونه مرة بمحاولات استرضائهم ومرة بعدم إصلاح أخطائنا ومثالبنا دون الحاجة إلى إعطاء هذه المؤسسات الدولية الموظفة لتطبيق عولمة الهيمنة الأمريكية الفرصة والحجة للتدخل السافر في أدق شؤون ثقافتنا وقيمنا الدينية كما هو حادث اليوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي