هل كسب صدام الجولة الأخيرة؟!

[email protected]

تابعت ردود الأفعال على إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين ـ رحمه الله، من خلال ما كتب في الصحف، وقيل على الفضائيات، ونشر في مواقع الإنترنت، بما عكس تعاطفا واسعا معه، واستخدمت تنديدات واعتراضات الدول والمنظمات والتي كان بعضها يستنكر تنفيذ الإعدام في يوم مقدس ومناسبة دينية عظيمة، وبعضها الآخر يرفض مبدأ الإعدام من أساسه، ووظفت بغير حقيقتها بكونها تعترض على إعدامه بصفته صدام حسين رئيس جمهورية العراق الذي خلع على يد غزو واحتلال غاشم وغير قانوني (ومتى كان الغزو والاحتلال شرعيا وقانونيا..؟!) وهذه الاحتجاجات الدولية لم تظهر إلا بعد الإعدام وليس قبله، ولم نسمع بها حين تم الغزو وحدوث الاحتلال، وحين قبض على صدام وأودع السجن وسيق للمحاكمة، والرجل يقول إن ما بنيّ على باطل فهو باطل وكان محقا في ذلك.
الحقيقة التي غابت وسط هوجة الاحتجاجات والاعتراضات هي تاريخ صدام حسين الدموي وأسلوبه الدكتاتوري الذي حكم فيه العراق على مدى 30 عاما وزع فيه ظلمه على الجميع بعدالة يشهد له بها، فبعيدا عن الصورة العاطفية التي أحاطت بصدام بعد فقدانه السلطة وتحوله من القائد الملهم والضرورة إلى المتهم بجرائم يساق بها للمحاكمة وهو مقيد اليدين ويتلقى سيلا من الإهانات المقصودة من ناحية، وبراعته في خلق صورة المتحدي والقوي لسجانيه خصوصا في مشهد الإعدام الأسطوري من ناحية أخرى، بعيدا عن تلك الصورة فإن لا أحد ينكر أن صدام لم يكن أثناء حكمه ذلك الحاكم اللطيف والرقيق والمتسامح، فضلا عن أن يكون ديمقراطيا ليس مع خصومه وأعدائه، بل مع رفاقه وزملائه ممن تجرأ فقط وأبدى رأيا عفويا لم يعجب صدام أو اعتقد أن صفة "الرفيق" تعطيه الحق في الاعتراض وتحميه من غضب القائد، ولسنا هنا في حاجة إلى سرد التصفيات التي جرت في عهده لرفاقه وعدم غفرانه أو تسامحه كما فعل مع زوجي ابنتيه اللذين انشقا ثم عادا بوعد أمان من صدام ثم أعدما بالطريقة التي يعرفها الجميع، وهنا أتذكر رواية رواها الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد سقوط بغداد وزوال نظام صدام في لقاء له مع الأستاذ عماد الدين أديب على قناة أوربت تختصر ذلك كله، يقول الأستاذ هيكل إنه زار العراق بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والتقى الرئيس صدام الذي حدثه عما ينتظر العراق من تطور بعد نهاية الحرب مع إيران، والتي كانت وقتها مستعرة، واقترح عليه صدام أن يلتقي وزير التخطيط العراقي آنذاك وفعلا ذهب إلى الوزير وخرج معجبا بالرجل وعقليته وفكره، وبعد عدة سنوات عاد الأستاذ هيكل للعراق وكان أول من سأل عنه صدام حسين ذلك الوزير، وبعد أن تذكره فوجئ الأستاذ هيكل بصدام حسين يقول له بشكل عادي: آه هذالك.. طخيناه، وطخيناه تعني أعدمناه..!!
هذه هي الصورة الحقيقية لشخصية حاكم من طراز صدام حسين والذي حكم العراق على مدى 30 عاما بيد حديدية لا رحمة فيها ولا تهاون، وهو ما يبرره البعض بالقول إن بلدا مثل العراق بتعدد طوائفه ومذاهبه وأعراقه لا يمكن أن يحكم إلا بالطريقة "الحجاجية" نسبة للحجاج ابن يوسف، إلا أن هذه الصورة الحقيقية لصدام حسين اختفت خلف حمى الانتقام والثأر المذهبي اللذين سيطرا خصوصا على المشهد الأخير، فبدلا أن يقدم صدام حسين لمحاكمة تحاكم عهده كاملا بكل ما جرى فيه، إذ بطائفة مذهبية وحيدة تستأثر به وتصمم له قضية خاصة بها وتقوم بعملية إعدامه عليها وكأن جريمة وأثم عهد صدام حسين قاصران على قضية "الدجيل" الضعيفة وغير الأساسية قياسا بحجم التهم الموجهة إليه وإلى نظامه ابتداء من الحرب مع إيران مرورا بقضيتي الأنفال وحلبجة الكرديتين، ومن ثم غزو الكويت وانتهاء بتعريض العراق للغزو والاحتلال الأمريكي، فالقفز على كل هذه القضايا وحصر المسألة في الاقتصاص من صدام حسين في قضية مثل "الدجيل" المحدودة القيمة تضع الكثير من علامات الاستفهام، فهل جعل قضية "الدجيل" هي قضية المحاكمة وتنفيذ حكم الإعدام عليه بسببها فقط هي محاولة لعدم فتح ملفات الحرب مع إيران وقضيتي الأنفال وحلبجة وغزو الكويت؟ هذا صحيح، فهذه القضية قضية مأمونة لا توجد فيها أسرار لا يراد الكشف عنها ويخشى من فضحها بما يحرج كثيرا من الأطراف وعلى رأسهم إيران والولايات المتحدة وكليهما متورط بشكل أو بآخر بكل ما حدث.
على العموم لم يعد مفيدا الحديث عن تلك الملفات الغامضة بعد شنق الرجل الذي يستطيع فضح ما هو مستور، ويبقى المشهد الذي جسدته عملية الإعدام وقد غطى على كل الصورة، ففي الوقت الذي أريد أن يكون المشهد نهاية ذا عبرة لكل طاغية ومتجبر، إذا بالسحر ينقلب على الساحر، ففي حين أريد أن تكون عملية الإعدام هي الجولة الأخيرة في إذلال صدام حسين، إذ بالمعدوم يحولها إلى جولة أشبه ما تكون بهدف اللحظة القائلة في لعبة كرة القدم، فالمشهد اختلطت فيه الثأرية الانتقامية المذهبية، كما أبرزتها تلك الأصوات التي سمعت والرجل يساق إلى حتفه مما أفقد عملية الإعدام المعاني القانونية والمشروعية القضائية مع الدور الأسطوري الذي لعبه صدام حسين باقتدار وهو يواجه الموت بثبات ورباطة جأش لم تمنعه من توبيخ جلاديه والمتشفين فيه بعبارته "هيه هاي المرجلة" ورفع حدة المشهد الأسطوري حين أخذ يتشهد بصوت قوي لم تبرز فيه لحظة ضعف إنساني متوقع في مثل هذا الموقف الرهيب، وهنا يمكن القول إن صدام حسين كسب الجولة الأخيرة، على الرغم من أنه دفع حياته ثمنا لقضية لا تمثل حقوق العراقيين جميعا سنة وشيعة وأكرادا ودولا إقليمية، ومحاكمته ومن ثم إعدامه على قضية مثل "الدجيل" وحدها وبراعة صدام حسين في تمثيل دور الضحية لضيق الأفق المذهبي، هو ما جعله يقدم على الموت بتلك الصورة لكي يقدم نفسه "شهيدا" للانتقام المذهبي وليس المقتص منه على جرائم متهم بارتكابها طوال عهده، لقد كسب صدام الجولة الأخيرة بلعبة احترافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي