أنا ضحية = أنا موجود !
من الناس من يستمتع أشد استمتاع بترديد البكائيات وتمثيل دور الضحية طوال الوقت, سواء كان ذلك بسبب أو دون سبب.. وأنا أتحدث هنا عن نوعية من البشر لا تجيد الفرح حتى وإن اضطرت لذلك اضطراراً فسرعان ما تنسحب منه إلى عالم التباكي واللطم والنياحة.. ألم تشاهدوا اشخاصاً يستعيذون بالله من شر الضحك بعد أي ضحكة بسيطة تصدر عنهم؟!
إنهم حزب ''أنا أبكي إذن أنا موجود''.. فالدور المسرحي الذي يلعبه أحدهم وهو يشكو من كل شيء يمنحه شعوراً بالتواجد والفاعلية في محيطه الصغير.. كما أن أغلب من ينتهجون هذا النهج في حياتهم يخلقون لا شعورياً مبررات استباقية لفشلهم الحتمي, هذا إلى جانب أنهم يعانون بشكل كبير من عدم قدرتهم على مواجهة الصعوبات, مما يجعل تمثيل دور الضحية بالنسبة لهم مجرد مناورة تكتيكية للهروب من التحديات المستقبلية التي من المفترض أن يواجهونها, وهؤلاء موجودون في كل مكان وزمان, ولعل من أشهر المتباكين على مر التاريخ الشعب اليهودي الذي مازال يبكي ويلعب دور الضحية من أيام بختنصر مروراً بعهد الرومان و المحرقة النازية وليس انتهاءً بالتباكي على الدبابة الإسرائيلية باعتبارها ضحية للحجر الفلسطيني!
أيضاً يمكننا أن نلحظ منهجية التباكي في الفن العربي ابتداء من الشعر العربي القديم الذي يستفتح فيه الشاعر قصيدته بالبكاء على الأطلال مروراً بآلاف القصائد المشبعة بالحزن والشجن حتى وقتنا الحالي, وهذا يمتد إلى الألحان والغناء ابتداءً من إبراهيم الموصلي وزرياب مروراً بالموشحات وأغاني أم كلثوم وحليم والأطرش وليس انتهاءً بأشهر الفنانين السعوديين اليوم فالكل ''يبكي على ماجرى له'' و''دمعه على خده'', والله المستعان!
كما يمكن أن نلحظ التباكي في الخطاب العربي المعاصر بشكل عام, و ما ''نظرية المؤامرة'' إلا نتاج لدور الضحية الذي يلعبه المثقف والخطيب والسياسي العربي منذ بداية القرن الماضي, بينما لا يمكن أن نلاحظ ذلك عند اليابانيين مثلاً الذين أغرقوا العالم بالتكنولوجيا بعد قنبلتين ذريتين سقطت على رؤوسهم وأبادت ما يقارب 150 ألف مواطن منهم منتصف القرن الماضي.
أما على المستوى الفردي والأسري فلطالما سمعنا عن زوجات مدمنات على لعب دور الضحية وأزواج لا يقلون عنهن احترافاً في لعب الدور نفسه, وهناك عشرات القصص الشهيرة التي تختزنها الذاكرة وتتداولها الصحافة عن هذه الفئة, ولعل أشهرها قصة مجرمة الجهراء التي أحرقت قبل أيام خيمة عرس طليقها لتزهق أكثر من 40 نفساً ليس بدافع الغيرة العمياء كما قد يتوهم البعض وإنما نتاج شعورها بأنها كانت ضحية لهذا الطليق الذي لم يحسن معاملتها أثناء فترة اقترانها به كما ذكرت في التحقيقات.. هذا بالرغم من أنهما منفصلان منذ فترة طويلة وكان بإمكانها أن تبدأ حياة جديدة وتلقي بالماضي خلفها.. لكنها عجزت عن التخلص من دور الضحية الذي قادها في نهاية المطاف إلى ارتكاب حماقة ستدفع حياتها ثمناً لها !
قبل أيام التقيت صديقا لديه مشكلة مع إحدى شركات الاتصالات وظل طوال الوقت يندب حظه على الساعة التي صار فيها عميلاً للشركة, ونظراً لأنني رجل أحب مساعدة الآخرين فقد اتصلت به في اليوم التالي لأزوده بالطرق النظامية لتقديم شكوى ضد الشركة لدى الجهة المسؤولة, حتى يستعيد حقه إن كان له حق بالفعل, ولكنني فوجئت به يقول: ''يا أخي كنت أظن أن لديك حلاً أو واسطة في الشركة, أما الشكوى فليس منها فائدة''.. عندها فقط اكتشفت أنني كنت ''ضحية'' لصديق مدمن على لعب دور ''الضحية''.. وكل ''ضحية'' وأنتم بخير!