جرائم عقوق الوالدين إلى متى؟
نشرت صحيفة جزائرية منذ أيام تفاصيل جريمة تقشعر منها الأبدان، ولا يتخيلها إنسان يخاف الله، عن أم لفظت أنفاسها متأثرة بطعنات وجهها لها ابنها الذي تجرد من إنسانيته وانهال عليها بالطعنات في الرقبة والبطن، وبينما كانت الدماء تسيل من جروحها، لم تفقد حنانها الفطري حتى وهي تفارق الحياة، فسالت كلمات الدعاء من فمها بالمغفرة والرحمة، لتضرب أصدق مثال على الرحمة بالابن المجرم.
ولفظت الأم أنفاسها الأخيرة يوم الجمعة الماضي في المستشفى ببلدة بازر سكرة (شرقي الجزائر) متأثرة بالطعنات التي وجهها لها هذا الابن العاق وعمره 36 عاما إثر لحظة هياج عصبي أقدم خلالها على ذبح أمه العجوز بخنجر مرره على عنقها، ثم وجه إليها طعنة على مستوى الكبد نقلت على أثرها إلى المستشفى.
وكما نشر أن المشهد الذي تأثر به الطاقم الطبي المعالج لها أنها كانت تردد كلمات الدعاء لابنها بالمغفرة وأنها سامحته على فعلته، عندما استفاقت من غيبوبتها قبل أن تفارق الحياة.
لقد بكيت وأنا أقرا هذا الخبر لأني لا أتخيل أن هناك من يجرؤ على قتل أحد والديه إطلاقا. ولا أستطيع أن أقتنع بأي تبرير فلسفي لهذه الجرائم البشعة التي يقوم بعض الأبناء المجرمين تجاه أحد والديهم. وأستعيد وجه والدتي الحبيبة ــ رحمها الله ــ في كل قصة بشعة تحكي أمثال هذه الجرائم، وأقول كيف يجرؤ ابن على قتل الطهر والأمومة في كل أم؟
وهناك عشرات القصص التي نشرت لدينا هنا أو في بعض دول الخليج عن جرائم مماثلة، توغل في غرس الألم في نفوس من يقرأها. فلا ننسي منظر ذلك الأب الذي أغرقه أبناؤه في حديقة الخور منذ عام، ويبدو أنه كان نائما قبل أن يغرقوه فيداه مقيدتان. ولا آثار لأي مقاومة. وذلك الشاب الذي أطلق على أبيه النار وهو ذاهب لصلاة الفجر يوم جمعة! واختفى ثم تم القبض عليه في الباحة. أو الآخر الذي أطلق النار على والده عندما أراد إيقاظه لصلاة العصر!
وما نشر عن قيام مواطن خليجي بقتل والدته البالغة من العمر 55 عاماً بعد أن ضربها بمطرقة على رأسها وأحرق جثتها في منزل العائلة الواقع في منطقة صباح السالم جنوب العاصمة منذ ثلاثة أعوام. والآخر الذي أحرق والده أثناء نومه بصب مادة كاوية عليه أدت إلى حرقه ووفاته لأنه طلب منه أن يبحث عن عمل بعد حصوله على البكالوريوس من كلية العلوم ليتمكن الأب من الصرف على بقية إخوته فاستثمر خبرته في التخصص ليقتل والده!! قصص مروعة لا يقوى على تقبلها أي شخص مهما حاول إيجاد أسباب منطقية لها. كالفقر أو ربما عدم بر الوالدين بالأبناء في طفولتهم مثلا مما يتم إدراجه غالبا في تحليل هذه الجرائم.
وتعود بي الذاكرة إلى المرحلة التي كنت أعمل فيها مديرة لإحدى المدارس المتوسطة في جدة وكانت معنا معلمة مصرية ممتازة في عملها، ولديها ابن واحد، وكانت تضطر إلى إحضاره إلى المدرسة عصرا عندما كان العمل أيام الاختبارات النهائية يتطلب منا جميعا البقاء في المدرسة لإنهاء التصحيح ورصد الدرجات، فهو طفل لا يوجد من سيبقي معه في المنزل عصرا، وكان عمره يقارب السنوات الخمس, وما زلت أتذكر حرصها عليه ومتابعته وهو يلعب في الحديقة الداخلية التي تقع أمام غرفة الإدارة، فقد كان وحيدها، ذلك الصغير كان ضوء عينيها ومحور حياتها. وجميعنا كنا نحبه لذكائه ودمه الخفيف.
ومرت سنوات غادرتنا بعدها هي وزوجها وعادوا جميعا إلى القاهرة وانقطعت أخبارها عني خصوصا أنني سافرت بعدها للدراسة في الولايات المتحدة.
وبعد عودتي إلى الوطن بسنوات قرأت في الصحف خبرا عن شاب قتل والدته بتسديد طعنات عديدة إلى ظهرها بسكين كبيرة لأنها رفضت إعطاءه مبالغ مالية طلبها! وأخفي جثمانها في صندوق كبير في المنزل تمويها ليتمكن من الهروب قبل مجيء والده. كان ذلك هو أحمد! الذي كان ضوء عينيها وقطعة من فؤادها. بكيت يومها كثيرا عليها وعلى تلك الأمومة التي لم يرحمها ذلك المجرم الطائش.
وهناك من يرى أن هذه الجرائم البشعة التي تحدث في معظم دولنا العربية ليست ظاهرة وإنما حالات فقط! وأستغرب أن نتهاون في تحليل أسبابها لأنها ليست (ظاهرة)!! هل سننتظر إلى أن تصل إلى هذا المستوى؟
وكما نشر في الموقع الذي نشر عن الأم الجزائرية التي قتلها ابنها وهي تدعو له. إن عدد الأبناء الذين يقفون أمام العدالة بسبب ممارسة العنف ضد الآباء والأمهات في الجزائر يزيد على ستة آلاف متهم منذ بداية العام الحالي، موجودون جميعا رهن الحبس المؤقت، وفقا لإحصائيات وزارة العدل الجزائرية.
ولا يمثل هذا العدد الكبير ــ وفقا لدراسة نشرها موقع «إسلام تايم» في 11 أيار (مايو) 2008 ــ سوى نسبة ضئيلة فقط من العدد الحقيقي للقضايا التي تحدث يوميا لاعتبارات اجتماعية، ولا تصل إلى أروقة المحاكم.
بالطبع ليست الجزائر هي الدولة الوحيدة التي تنتشر فيها هذه الجرائم البشعة التي نشر عدد من الصحف لدينا هنا تحقيقات صحافية عنها وعن (عقوق الوالدين) شارك فيها عديد من المشايخ والاختصاصين الاجتماعيين. وإن كان هناك إجماع لأهمية مكانة الوالدين مستمدة من الآيات القرآنية التي تنص على البر بهما وطاعتهما ما لم يأمرا بمعصية، وقد فرض الله ــ سبحانه وتعالى ـ برَّ الوالدين في القرآن، كما فرض الله ــ سبحانه وتعالى ــ على الوالدين بر الأولاد أيضاً في آيات كثيرة، وفي أحاديث النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ أيضاً.
فقـال جل وعلا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
العقوق من أكـبر الكبائر، ففي الصحيحين أن النبي قال: «ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، أو قول الزور) ــ وكان متكئاً فجلس ــ فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت».
حديث عبد الله بن عمـرو بن العاص ــ رضي الله عنهما ــ أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: «إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه» فقال الصحابة: وهل يشتم الرجل والديه؟ فقـال المصطفى: «نعم يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه،».
هذا الحديث يوضح الاستغراب بل الإنكار من جانب الصحابة ــ رضي الله عنهم ــ أن هناك من يجرؤ على شتم والديه.
فكيف أصبحنا الآن ننشر هذه الجرائم ونستنكرها بالطبع، ولكن ربما جهودنا لمنعها لا تتم بالشكل الذي يرقى لمستوى بشاعتها. لأن الأخبار بين فترة وأخرى تذيب ضلوعنا ألما بقصص بشعة عن مزيد من القتل والطرد للوالدين أو أحدهما!
إن ظاهرة العقوق لا تتوقف عند القتل أو الطرد أو الضرب، أو الإيداع في دور المسنين كما نشاهد الآن، بل تتعداها لتدخل في عناصرها أي مساس بالوالدين، وهناك من لخصها في الآتي: إبكاء الوالدين وإحزانهما بالقول أو الفعل، نهرهما وزجرهما، ورفع الصوت عليهما، والتأفف من أوامرهما، والعبوس وتقطيب الجبين أمامهما، والأمر عليهما، وانتقاد الطعام الذي تعده الأم، وعدم الإصغاء لحديثهما، وذم الوالدين أمام الناس، شتمهما، والبخل عليهما والمنة. وتفضيل طاعة الزوجة عليهما. بل هناك من يحجر على والده أو يمنعه من العلاج من أمواله خوفا من أن ينقص إرثه بعد وفاة هذا الوالد!
إن العقوق دين لا بد من قضائه في الدنيا قبل الآخـرة، فلو أن كل عاق يتذكر ذلك فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لـبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، وستجني ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخـرة، ففي الحديث أن الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: «اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين».
فما هو مطلوب في الواقع جهود مكثفة لتحقيق مزيد من نشر الوازع الديني وإيقاظ الضمائر, وتوحيد جهود التربية والإعلام, ومؤسسات رعاية الشباب, ومراكز الأبحاث الاجتماعية والنفسية، لإعادة الأمن الأسري للجميع.