خواطر .. وصدمة القيم اليابانية
يعد برنامج خواطر الذي قدمه الأستاذ أحمد الشقيري على قناة إم بي سي في شهر رمضان أحد البرامج الثقافية (ولا أسميها الدعوية) التي لاقت استحسان وترحيب كثيرين من المشاهدين، ليس في السعودية فحسب بل وفي الوطن العربي. وسر هذا الاستحسان والقبول - في رأيي - هو الخروج من دائرة النمطية المكرورة في البرامج التلفزيونية إلى دائرة الإبداع في الفكرة، والتألق في التقديم، والتجديد في الطرح، وملامسة الواقع الاجتماعي والثقافي البعيد عن المثاليات أو العيش في خيالات النماذج البشرية القديمة، أو خيالات النماذج الحضارية الحديثة.
ففكرة البرنامج باختصار تستند على أن لدينا مخزونا هائلا من القيم الرائعة، لكنها وللأسف، بقيت حبيسة الكتب والدروس والمحاضرات العلمية، ولم تجد طريقها إلى التطبيق الصحيح على أرض الواقع. ولأن القيم في مجملها عالمية، ويتفق أسوياء البشر عامة على قبولها واحترامها ونقلها من جيل إلى جيل مثل قيم الصدق، واحترام كبار السن، والوفاء بالعهد، والمحافظة على النظام، والنظافة، وبر الوالدين، والعمل الشريف، والمحافظة على الوقت، وغيرها من القيم الكثيرة التي تزخر بها ثقافات الأمم قاطبة، ويزخر بها ديننا الحنيف بشكل خاص. أقول، لأن هذه القيم عالمية فقد وجدت طريقها للتطبيق العملي وعلى أرض الواقع لدى كثير من الشعوب، وخصوصا الشعب الياباني الذي هو محور المقارنة في برنامج خواطر مع الشعوب العربية. ومن هنا فقد برز السؤال الأكثر صراحة في البرنامج ولدى كثير من المشاهدين والمحللين: لماذا وجدت (بعض) القيم طريقها إلى التطبيق لدى بعض الشعوب، ومنها الشعب الياباني، ذلك التطبيق المبني على الإيمان بتلك القيم وليس على سلطة النظام أو التشريع أو القانون مثلا، في حين لم تجد طريقها إلى التطبيق لدينا نحن المسلمين؟ وحتى أكون دقيقا، فقد قلت (بعض القيم)، مما يعني أن لدينا نحن المسلمين، قيما كثيرة نعتز بالمحافظة عليها.
لقد أراد الشقيري في برنامج خواطر أن يحدث صدمة لدى الشعوب العربية في كيفية تعاطي الشعوب الأخرى، ومنها الشعب الياباني، مع تلك القيم العالمية، لعلها تحدث التأثير المطلوب، وتخلخل بعض القناعات التي تقدس المخرجات الكمية للتعليم، في حين تغفل جوهر التعليم، وهو الرقي بمبادئ التطبيق والممارسة لما تعلمه الطالب من قيم ومهارات وأخلاق، وإلا فلا خير في تعليم لا يغير من سلوك الطلاب واتجاهاتهم وميولهم، في حين يحشر عقولهم بالمعلومات التي سرعان ما يزول أثرها بانتهاء الاختبارات ورمي الكتب في حاويات القمامة!
وقد وفق مقدم البرنامج في إحداث الأثر المطلوب، وتحقيق الصدمة الثقافية والاجتماعية من خلال الملاحظة المباشرة والطبيعية لواقع الحدث، ملاحظة خالية من التمثيل أو الإعداد المسبق أو التصوير المدبلج، وهو ما كان سببا في وقوع البرنامج في عدد من الأخطاء الفنية والتواصلية، وهي أخطاء يجب ألا يلتفت إليها في ظل طبيعة البرنامج والرسالة التي يود إيصالها.
وفكرة التعلم عن طريق الملاحظة أو المحاكاة أو التقليد، أو بمفهوم آخر التعلم عن طريق ''النمذجة'' أو ''النموذج'' ليست جديدة. حيث تعد نظرية التعلم بالملاحظة ''لباندورا'' إحدى نظريات علم النفس التي حاولت عبر السنين أن تفسر السلوك البشري المعقد، ومن ثم الرقي بهذا السلوك في المجالات الحياتية المختلفة. وتشير كلمة ''نموذج'' إلى شخص فعلي يكون سلوكه قدوة يحتذى لمن يلاحظه، فيكون سلوكه ملهماً لصدور الاستجابة عند كل من يلاحظه.
ومع أن جهود علماء التربية والتعليم حثيثة في الاستفادة من معطيات هذه النظرية في الرقي بمستوى التربية والتعليم، والرقي بمستوى النماذج والقدوات في محيط الأطفال والشباب خصوصا، إلا أن هذه الجهود لم تصل بنتائجها - حتى الآن - إلى المستوى المطلوب. والمستفيد الأكبر من نتائج نظرية التعلم بالملاحظة هم التجار، وأصحاب الشركات الكبرى، التي تسوق لرواج السلع والمنتجات عن طريق استخدام الرموز والنماذج - من مشاهير وفنانين ونجوم - لتلك السلع والمنتجات بأشكال وأوضاع مختلفة.
ولذا، فإن توجه برنامج خواطر لملاحظة بعض السلوكيات والعادات الاجتماعية والثقافية الإيجابية لدى الشعب الياباني، ونقلها عن طريق التلفزيون للمشاهد العربي بهدف تشكيل أو إعادة تشكيل الاتجاهات الاجتماعية، لهو توجه محمود في ظل التأثير الضعيف والمحدود جدا للأدوار التقليدية للآباء والمعلمين فيما يتعلق بـ ''التعليم الاجتماعي''. وأقصد بالتعليم الاجتماعي، إن صحت التسمية ذلك التعليم الذي يقوم على تعزيز السلوك الحميد، وتحجيم أو إضعاف السلوك السيئ، عن طريق المحاكاة الإيجابية للأحداث أو الأشخاص، وليس عن طريق التعليم المباشر أو التقليدي الذي يقوم على حشو المعلومات والمعارف الجوفاء الخالية من الصور الحية والأساليب المشوقة، بل وحتى التبريرات المنطقية التي تشبع نهم الطلاب العلمي وتلبي ميولهم وتعزز اهتماماتهم.
مؤملا من وزارة التربية والتعليم الاستفادة من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية التي تقدم النماذج الإيجابية، وتصور القدوات الحسنة، وتترجم القيم الحميدة إلى سلوكيات وأخلاق تطبق على أرض الواقع. وأن تكون هذه الأفلام محورا أساسيا في عملية التعليم الاجتماعي التي تغرس القيم السامية وتكسب الطلاب الاستجابات الانفعالية المتزنة، والاتجاهات الاجتماعية الراقية، والنماذج السلوكية الجيدة.