محاولات اختطاف «وطن»..!
لا يشكك عاقل في أن التطرف ملّة واحدة, ونتيجة حتمية لمنهجية متعصبة في التفكير والتحليل, سواء كان تطرفاً في أقصى اليمين أو أقصى اليسار, وعندما يتعلق الأمر بالتطرف في الآراء حيال القضايا الوطنية والاجتماعية وينطوي على محاولة تخوين الآخر والتشكيك في ولائه لوطنه ومجتمعه, وربطه بأجندات وهمية أو مشاريع معادية, فإن ذلك يعني ببساطة محاولة ضعيفة وبائسة لاختطاف تراب «الوطن» من تحت أقدام أبنائه, وأقول ضعيفة هنا باعتبار أن الأطروحات الفكرية الجيدة التي تستحق الثقة والقبول, ليست بحاجة إلى إزاحة الأطروحات الأخرى عن طريقها بطعن أصحابها والتفتيش في طيات نواياهم وإدانتها بطرق مباشرة أو ملتوية, فهذا الأسلوب في حد ذاته كفيل بكشف عجز مثل هذه الأطروحات عن مقارعة غيرها.
قبل أيام تابعت برنامجاً يناقش قضايا المجتمع السعودي على إحدى الفضائيات, استضاف مواطناً وقدمه على أنه مفكر شاب, واصفاً إياه بأنه من فئة المحافظين على الثوابت والقيم الاجتماعية والدينية, ولا يمكنني فهم علاقة هذه العملية التصنيفية الخاطفة بما تبعها من نقاش سوى في إطار محاولات اختطاف «الوطن», وهو ما فتح الباب على مصراعيه لسؤال مهم عن إن كان تصنيف مقدم البرنامج لضيفه بهذا الشكل يهدف إلى تمرير فكرة أن معارضي أفكاره وأطروحاته سيتم تصنيفهم آلياً ضمن الفئة المحاربة للثوابت والقيم الاجتماعية والدينية.
طبعاً تابعت اللقاء بحثاً عن إجابة للسؤال, لأكتشف أن ذلك الشاب مسكون كغيره ممن تورطوا في دوامة التطرف الفكري بنظرية المؤامرة, فقد انشغل طوال ساعة كاملة بمحاولة إثبات ارتباط مخالفيه بأجندات معادية للمجتمع والوطن والدين, متجاوزاً عملية إثبات جودة أطروحاته أو فائدتها لمجتمعه إلى الطعن في مخالفيه لا أكثر.
وعلى الطرف الآخر, أتابع كما يتابع غيري, عشرات المقالات واللقاءات التلفزيونية لمثقفين يقدمون أنفسهم على أنهم تنويريون, ويصنفهم غيرهم كـ «ليبراليين», وغالباً ما أجد أنهم لا يختلفون في منهجيتهم لإثبات صحة أطروحاتهم وجودتها عن ذلك الشاب, فمعظمهم يعمد إلى تخوين مخالفيه, والتلميح مرة والتصريح مرة أخرى بأنهم يحملون الأفكار المفخخة نفسها للفئة الضالة وما إلى ذلك من عمليات الربط الساذجة التي تكشف عن ضعف منهجهم وعجزه عن مقارعة الأفكار ومحاولته كغيره اختطاف «الوطن».
وبين هؤلاء وأولئك يتسامى الوطن عن أن يكون مجرد حبل في حلبة وهمية للعبة شد الحبال بين متطرفين في جهتين متعاكستين, ويثبت مواطنوه يومياً وبشكل مستمر أن التطرف ليس منهجاً يميز الثقافة الجمعية لمجتمعهم, وإنما حيلة أقلية عاجزة عن إثبات وجودها إلا بتجريد مخالفيها من وطنيتهم وانتمائهم.
إن الوطن اليوم يا سادة يا كرام بحاجة إلى كل مواطنيه بجميع أفكارهم وتوجهاتهم, فهم سواعد تنميته وتقدمه مهما اختلفوا, ولابد من أن نتنبه إلى أن إشعال نيران الحروب الوهمية وتعميم منهجية التخوين عبر وسائل الإعلام من صحف وقنوات تلفزيونية أمر شديد الخطورة, ولا أود أن أقول إن هناك من يعمل جاداً لإذكاء هذه الحرب بهدف تحقيق مكتسبات خاصة حتى لا أضع نفسي في الخندق التخويني الساذج نفسه!