عبد الله بن عبد العزيز يحسم الموقف

إن الأمر الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين أزال تلك الغصة التي يجدها كل مواطن نتيجة الأضرار التي لحقت بمدينة جدة وبعض سكانها، فهو أمر يحوي في طياته جبر أضرار المتضررين وتعويض أسر المتوفين عشرة أضعاف الدية المقررة شرعا، وهو بعد ذلك جبر لتلك الأضرار المعنوية التي تفتح أسئلة كثيرة لن تجد لها أجوبة سوى أن هناك أخطاء فادحة وقعت ولا مجال لكثير من الحديث غير المنتج بعد، فقد حسم خادم الحرمين الشريفين الموقف برمته ووضع الأمور في نصابها الصحيح وأعاد الأمل إلى كل مواطن ساكن أو محب لمدينة جدة ووضع المسؤولين فيها أمام ضمائرهم وجعلهم تحت المحاسبة المستقبلية، فلن يكون مقبولاً بعد اليوم تكرر الأخطاء وتراكمها وذهاب أنفس بريئة وتلف أموال معصومة.
والحدث كارثة طبيعية سبقها إهمال لا يمكن إلقاؤه على شخص بعينه، ولكنه رغم ذلك كان يمكن تفاديه.
وقد كانت الدولة كريمة مع جدة كسائر مدن المملكة وهي اليوم تؤكد على ذلك. فمدينة جدة ليست كأي مدينة فهي قبل أي وصف يمكن أن يقال عنها بوابة أقدس بقاع الأرض مكة المكرمة، ولخدمة قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم تم بناء هذه المدينة قبل 14 قرنا ولا تزال تقوم بدورها الذي يتعاظم يوما بعد يوم، وهي الآن ميناء بحري ومطار جوي وواجهة اقتصادية لبلاد الحرمين الشريفين وأكبر ميناء على البحر الأحمر.
ولهذه الأسباب مجتمعة فقد أولتها الحكومة جل اهتمامها حتى كانت في صدارة المدن السعودية، لأنها حظيت باهتمام يليق بأهميتها ودورها، وأن مراجعة بسيطة لأرقام الاعتمادات المالية منذ أول خطة خمسية للتنمية وحتى اليوم لتؤكد أن الحكومة صرفت وأعطت بل بالغت في الصرف على مدينة جدة.
وكان من المفترض أن تكون مشاريع جدة التنموية وبنيتها التحتية متوافقة مع حجم ما صرف واعتمد، ولكن لأن الأمر ليس كذلك، فإن البنية التحتية لم تعد خافية على أحد في تواضعها وعدم ملاءمتها لاحتياج مدينة جدة اليوم وفي المستقبل القريب.
إن اللجنة التي أمر بتشكيلها الملك ستتولى بحث الأسباب ووضع الاقتراحات وستتناول المخاطر المستقبلية لمدينة جدة وعليها تقع مسؤولية قول الحقيقة كاملة وتحديد ما يجب أن يكون، لأن الملك لم يبحث في هذه الكارثة عن كبش فداء ليعلق عليه المسؤولية بل نظر إلى أولويات الأمور وضاعف التعويضات وهو يريد عدم تكرار ذلك مستقبلا.
كما أنه لا ينزعج من أي حقائق مؤلمة قد يتضمنها تقرير اللجنة، فالدولة بكيانها الضخم قادرة بتوفيق الله تعالى وبحكمة قائدها وسداد رأيه أن تواجه الموقف.. لأننا في تحد مع أنفسنا لنتغلب على حجم المأساة في أضرارها البشرية والمادية والمعنوية، وقد اختط خادم الحرمين الشريفين الطريق وأوضح الموقف بشفافية كاملة كما عرفناه وكما عرفه العالم يبحث عن أقرب الطرق لأفضل النتائج ويؤمن بمواجهة الموقف والتغلب عليه مهما كان مكلفا في نفقاته أو محرجا في تناوله.
ولعلنا نحن البلد الوحيد في العالم الذي لا يجد مشكلة البتة في تكاليف مشاريع تنميته ورفاهية حياته بقدر ما يواجه مشكلة عويصة في تنفيذ تلك المشاريع كما تم التخطيط لها.
وبمناسبة الحدث فإن مشاريع تصريف سيول الأمطار يتم تنفيذها حاليا أما لماذا لم تكتمل فإن أسلوب إدارة عقود الأشغال العامة تعطي المجال للمقاول الذي تم التعاقد معه الحق في الاستعانة بمقاول من الباطن، وهي كلها إن لم يكن معظمها تدار بهذه الطريقة التي أضاعت الكثير من الأموال وأفشلت الكثير من المشاريع.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا ينفذ المقاول المشاريع التي تمت ترسيتها عليه وقد وقع عليه الاختيار لإمكانياته سواء كان شركة أو مؤسسة وإلى آخر مقاول من الباطن تتوزع المسؤولية، ولا يجدي الجهة الحكومية المتعاقدة مصادرة خطاب الضمان أو معاقبة المقاول لأنها لا تستهدف ذلك من الأساس بل تسعى إلى إنجاز مشاريعها بأفضل ما يمكن، وأقرب الطرق إلى ذلك أن يلزم المقاول الرئيس بأداء عمله كاملاً وتسليمه في موعده بذات المواصفات والشروط المتعاقد عليها.
لقد كانت هذه الكارثة قدرا مؤلما بكل تفاصيلها ورغم دقة الظرف التي جاءت فيها ومصادفتها لموسم الحج وعيد الأضحى المبارك ووقوف جنودنا البواسل على خط النار للدفاع عن الوطن وردع المعتدين، فإن موقف الدولة ممثلاً في الأمر الملكي الكريم فاق أفضل ما يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا وكان علاجا للقلق والوساوس التي أصابت كل مواطن حول الكفاءة الإدارية لمدينة جدة وبدد المخاوف حول مستقبلها التنموي وأمن المعيشة فيها وسلامة الأموال والأرواح لسكانها وزائريها.
إن متغيرات المناخ الحادة لم تعد خافية على أحد وهي محل نقاش طويل بين قادة العالم الذين سيجتمعون في كوبنهاجن خلال الشهر الحالي، حيث يتم تقاذف المسؤولية كالكرة بين الأطراف الأكثر تأثيرا في المناخ والبيئة، ولأننا جزء من العالم وسنتأثر حتما بل قد بدت بوادر تلك المتغيرات فإن مدينة جدة ربما تكون الأكثر عرضة للمخاطر، ولذا فإن الجهات الحكومية في مدينة جدة مطالبة اليوم وليس غدا بأن توقف مصادر الخطر وأهمها:
1- تصريف مياه الصرف الصحي إلى شرق جدة ومنع استعمال تلك البحيرة المخصصة لذلك واستبدالها بتصريف تلك المياه إلى مكان آخر يبعد عن جدة ما لا يقل عن مائة كيلومتر لتفادي تلوث الهواء ومخاطر انهيار سد البحيرة.
2- البناء العشوائي الذي يزداد شرق جدة ولا يكاد يتوقف، وإزالة كل بناء لا يوجد لصاحبه صك شرعي يثبت تملكه له.
3- المقيمون بصفة غير نظامية تركزوا في محافظة جدة وكأنهم وجدوا مكانا آمنا لهم يتيح لهم ممارسة الجريمة بأنواعها.
4- التلوث الصادر من مصنع تحلية المياه الذي يقع على شاطئ البحر وفي قلب جدة النابض بالحركة اليومية التي لا تتوقف وهو المكان الذي يرتاده زوار مدينة جدة وسائحوها.
ولا يفوت هنا التنويه بما قدمه الدفاع المدني من أعمال إغاثة وإنقاذ استخدم فيها كل الوسائل في الأرض والجو وشاركه فيها أجهزة أمنية وحكومية أسهمت والحمد لله في تخفيف الأضرار والخسائر وخصوصا البشرية منها. وإننا لنسأل الله سبحانه وتعالى لكل من اختارته إرادة الله في هذه الكارثة أن يكون شهيدا، ولكل أسرة فقدت أبا أو أما أو أي فرد فيها أن يلهمهم الله الصبر والسلوان، وإذا كانت آلامنا كبيرة فإن آمالنا أكبر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق خادم الحرمين الشريفين لكل خير وأن يمده بنصره وتأييده، إنه على كل شيء قدير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي