كيف ننجح في إدارة الأوقاف؟
تقدم القول إن نقل الإشراف على الأوقاف من الإدارة الحكومية المباشرة إلى هيئة عامة مستقلة، يرجى أن يكون أكثر كفاءة من الناحية الإدارية والاقتصادية، وخاصة من حيث الدور الذي يمكن أن تؤديه الأموال الوقفية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الإسلامية إذا ما أحسنت إدارتها وأتقن فن استثمارها بشكل مؤسسي وأخضعت لرقابة ومراجعة نظامية كافية. وقد هاتفني الصديق الدكتور عصام الصبان - استشاري طب الأطفال في المستشفى التخصصي في الرياض - معلقا على مقالة الأسبوع الماضي فقال: إن أكثر ما يخشاه أن تنتهي الأفكار الجميلة والمقاصد النبيلة والآمال العريضة إلى إحباطات أليمة عند التطبيق! فهو يخشى أن تعمل الهيئة العامة للأوقاف بطريقة مركزية فينتهي بها الأمر إلى الوضع البيروقراطي ذاته الذي كانت عليه إدارة الأوقاف تحت مظلة الوزارة. ودلل على ذلك من واقع ما لمسه في عمله من الأثر السلبي لمركزية الإدارة - عندما يكون مقرها في مدينة معينة – فتؤثر سلبا على سرعة وفاعلية اتخاذ القرارات على فرعها في مدينة أخرى.
والحقيقة أن مخاوفه لم تأت من فراغ بل لها أساس من الواقع المشاهد. فقد لاحظ بعض المختصين أن محاولات إعادة تنظيم الأوقاف في العقدين الأخيرين في أغلب الدول الإسلامية جاءت بمستوى يقل عما يتطلبه تحقيق الأهداف التي كان ينبغي لإدارة الأوقاف الوصول إليها! فلم تتضمن هذه المحاولات في حقيقتها أكثر من تغيير أو تعديل في شكل الإدارة الحكومية دون نقلة نوعية إدارية تقدم أنموذجا جديدا يناسب طبيعة الأوقاف الإسلامية باعتبارها جزءاً من القطاع الاقتصادي الثالث الذي يرتبط أساسا بتنظيمات المجتمع المدني وليس بالأجهزة الحكومية.
ولا شك أن نجاح أي تنظيم إنما يعتمد على قدرته على تحقيق الأهداف المنوطة به. ولذا وجب على هيئات الأوقاف أن تعرف وتحدد جيدا أهدافها من إدارة الأوقاف بتوعيتها المباشرة والاستثمارية بشكل واضح ودقيق، حتى يمكنها أن تتوصل إلى النموذج الإداري الأنسب الذي يمكن من خلاله التوفيق بين هذه الأهداف والعمل على تحقيقها واقعا ملموسا. ولنجاح الأوقاف وبالذات تلك التي لها طابع استثماري يجب أن تتوخى الهيئة العامة للأوقاف الأهداف التالية:
- حماية أصول الأوقاف بالصيانة والإدارة الحصيفة للمخاطر.
- رفع الكفاءة الإنتاجية لأموال الأوقاف بتحقيق أعلى إيراد ممكن مع ضغط النفقات لأدنى حد.
- ترتيب منهج الإدارة وصياغة العقود بطريقة تكفل تخفيض المخاطر الأخلاقية المتعلقة بالفساد وإساءة استخدام السلطة أو الأمانة إلى أدنى حد ممكن.
- الالتزام بشروط الواقفين سواء تعلق الأمر بنوع أو غرض الاستثمار أو حدوده المكانية، فضلا عن منهج الإدارة وطريقة اختيار المديرين أو النظار.
-ـ حسن توزيع إيرادات الأوقاف على أغراضها المحددة لها سواء جاءت بنص الواقف إن عرفت أو من خلال الاجتهاد الفقهي.
-ـ تقديم نموذج ناجح للمجتمع لجذب واقفين إضافيين من خلال القدوة الحسنة، حيث يلمس الناس الفوائد الكبيرة التي تشجعهم على وقف أموال جديدة.
صحيح أن نجاح المؤسسات الوقفية في المجتمعات الإسلامية كان يرجع بشكل أساسي لما تمتعت به هذه المؤسسات من استقلالية ومرونة مناسبة في الإدارة واتخاذ القرارات على مر السنين. بيد أن هذا النموذج الفردي هو نفسه الذي أفرز بعد قرون تلك الانتقادات الكثيرة (بسبب فساد بعض المتولين والقضاة)، والتي دفعت الحكومات منذ منتصف القرن الـ 19 الميلادي حتى اليوم إلى إخضاع الأوقاف تحت إشرافها من خلال إنشاء وزارات للأوقاف. إلا أن الإشراف الحكومي لم يكن أحسن حالا، كما لاحظ كثيرون ومنهم فقيه متأخري الحنفية ابن عابدين صاحب الحاشية المتوفى عام 1836م. إذ لاحظ أن الأوقاف دخلها الفساد الإداري الأمر الذي أدى إلى ضياعها أو تدهور أوضاعها وتدني كفاءتها الخدمية.
وفي الوقت الذي تردت وانحطت فيها الأوقاف في المجتمعات الإسلامية سواء كانت قائمة بالجهود الفردية أو الحكومية، كانت فكرة المؤسسات الوقفية كقطاع ثالث وسطي بين القطاع الخاص، والعام تنتشر وتنمو ويعلو شأنها من حيث الكفاءة في الأداء والتنوع في الأغراض في المجتمعات المتطورة في الغرب. وقد لاحظ عدد من المختصين المعاصرين - ومنهم الدكتور منذر قحف صاحب أفضل وأعمق وأشمل مؤلف حديث قرأته عن الأوقاف – أن الفساد في إدارة الأوقاف لم ينشأ لأنها كانت محلية فردية حتى تستبدل بالإدارة الحكومية المركزية، وإنما نشأ لانعدام الشكل المؤسسي الذي يحقق المرونة والكفاءة في الإدارة مع إخضاعها لدرجة عالية من رقابة الأداء بشكل يرتبط بتحقيق أهداف هذه الأوقاف. إن نجاح الأوقاف يحتاج إلى أكثر من مجرد استبدال جهاز حكومي بهيئة عامة، إنها بحاجة إلى تغيير مؤسسي يخرجها من بيروقراطية الأجهزة الحكومة ويبعدها عن مفاسد الإدارة الفردية، ويؤكد هويتها كقطاع ثالث غير ربحي له أهداف عامة اجتماعية لكنه يستلهم أسلوب كفاءة الإدارة الخاصة دون الإخلال بمبدأ الرقابة والتوازن.