المدارس المصرفية الإسلامية .. أيتها أصح؟

في الجلسات الأولى لفعاليات تتعلق بالتمويل الإسلامي: الأدوات والهيكلة، في معهد الدراسات المصرفية في الأردن، عقدت خلال هذا الشهر تبين بوضوح الحاجة إلى بديل لتوحيد الفتوى فيما يتعلق بالصيرفة الإسلامية والتكافل، ومع إصرار المشاركين على عدم القدرة على توحيد الفتوى بل استحالتها، وعلى أهمية الاختلافات في الاجتهادات الفقهية تبعا لقناعاتنا بأن الاختلاف الفقهي إنما هو رحمة بالأمة، أبرز أحد العلماء الماليزيين البارزين بديلا .. ألا وهو هيكلة أدوات التمويل الإسلامي بحسب الزبائن المستهدفين؛ فإن كانوا من الخليج العربي تمت هيكلة الأدوات المالية الإسلامية بحسب ما تقره الهيئات الشرعية لديهم، وإن كان الزبائن المستهدفين من ماليزيا أو شرق آسيا تمت الهيكلة بحسب ما تقره الهيئات الشرعية لديهم. ونظرا لخطورة هذا الواقع ولاستبعاد مسألة الترجيح التي كانت نهجا لعلمائنا السابقين، فإن تعدد الفتاوى فيما يتعلق بالتمويل الإسلامي سيصبح مدخلا لاتباع هوى النفوس؛ ويتمثل هنا في المصلحة المادية حصرا دون النظر إلى انعكاسات ذلك على الصناعة ككل.

إن المصرفية الإسلامية بذاتها تم بناء قواعدها ومستندها الفقهي في غالب الأحيان على الترجيح، ومثال بسيط على ذلك الوعد الملزم، إذ إن الآراء الفقهية في ذلك متعددة، وتبنت المصارف الإسلامية بالعموم فيما يتعلق ببيع المرابحة هذا النوع من الوعود دون تردد في الترجيح بما يتناسب مع احتياجات الصناعة، أما اليوم وبالرغم من ظهور الاختلافات الفقهية على السطح فيما يتعلق ببيع الدين وغيره من الأمور التي لا تستند فقط إلى قوة الدليل، بل إلى القواعد الفقهية أيضا، نجد العلماء منقسمين بحسب مناطقهم، وكأن المسألة تحتمل الانقسام وتعدد الآراء.

في نظري أن الترجيح في هذه المسائل متطلب ضروري مع توضيح البعد المقاصدي والمصلحي لاعتماد الحكم لا البناء عليهما على أنهما ركيزة لا يمكن تغييرها أو الترجيح فيها.

لقد ظهرت هذه الاختلافات ـــ وهي ظاهرة صحية إلى حد معين ـــ ولكن إن تم تركها على غاربها من الممكن أن تكون مسيئة للعمل المصرفي الإسلامي بالعموم، وفي فقه المعاملات المالية من الواجب في عصرنا الحالي أخذ الأبعاد الاقتصادية والفنية بعين الاعتبار عند الترجيح في المسائل المختلف فيها، فعلى سبيل المثال من الصعب إقرار بيع العينة دون النظر في ضوابطه ومتابعة هذه الضوابط، إذ بالرغم من تتبع أقوال الفقهاء إلا أن أحوال الصناعة تستلزم الأخذ بعين الاعتبار النظر فيها، فالفقه بمعناه اللغوي العام هو الفهم.

أن تقاد صناعة المال الإسلامي دون هيكلة خاصة للجهات الشرعية التي تعتمد أدوات التمويل الإسلامي وآليات العمل في المصارف الإسلامية وغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية يجعل الصناعة في مهب الريح، ومن الصعب ضمان الأجيال القادمة وحتى الحالية من الفقهاء. وعليه فإن الرجوع إلى قرارات موحدة؛ ومنها ما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي يختصر الطريق ويجعله أكثر أمنا من تتبع الاجتهادات الفردية هنا وهناك.

إن المرتكزات الفقهية لصناعة المال الإسلامي اليوم تنقسم إلى ثلاثة مدارس: المدرسة الخليجية، والمدرسة السودانية، والمدرسة الماليزية. ولعل البعض يتساءل عن الفرق بين المدرستين الخليجية والسودانية من حيث الممارسات المعززة بفقه وأحكام شرعية متقاربة. ونقول في ذلك إن المدرسة السودانية أقرب إلى الضبط الشرعي ليس من باب اجتهاد القائمين عليها فحسب وإنما أيضا بسبب الأحوال السياسية التي أسهمت في الحد من التجارة والاستثمار في الخارج مع الدول غير الإسلامية أو التي لا تمتلك حضورا على ساحة صناعة المال الإسلامية إلا في نطاق ضيق، أما المدرسة الماليزية وهي في النواحي الفنية والقانونية ربيبة الأنظمة البريطانية فهي تعطي صناعة المال الإسلامية نكهة دولية خاصة، ولكن ما نخشاه على هذه الصناعة هو التسارع الذي ـــ وإن كان مدروسا ـــ إلا أنه يلهث لمواكبة الرتم السريع للصناعة المالية العالمية التي بشكل أو بآخر بدأت بتخفيف الخطو لمراجعة أخطائها القاتلة.

وللتقليل من مخاطر تعدد المدارس الفقهية التي يتم قيادة العمل الإسلامي من خلالها، بل التعبير عن جوهره في بعض الأحيان، نقترح أن يقود مجمع الفقه الإسلامي الدولي عبر تأسيس ذراع لفقه المعاملات المالية الإسلامية في هيكليته القائمة وذراع أخرى تحت مظلته لهندسة الأدوات المالية الإسلامية وابتكار أدوات تمويل واستثمار إسلامية، ومن ثم تقديم الأدوات الجديدة والفتاوى المتعلقة بالعمل المالي الإسلامي من خلال البنوك المركزية والهيئات الرقابية الإشرافية المعنية إلى المؤسسات المالية الإسلامية، ولا بأس أن تكون حلقة الوصل بين مجمع الفقه الإسلامي والجهات التنظيمية والإشرافية في الدول، هيئات شرعية مركزية تسهل عملية تبادل الاحتياجات والمعلومات في آن معا، وبذلك يكون للنظرة الشرعية جهة موحدة تخدم البت في الجدل الدائر دوما حول مشروعية صيغ التمويل الإسلامي والعقود المركبة، إضافة إلى جهة شرعية مركزية تستطيع تولي العمل المالي الإسلامي بحيثياته وتفاصيله المستجدة بحسب طبيعة كل دولة بعينها.

إن المعاملات المالية الإسلامية ما يتعلق منها بالمصرفية الإسلامية أو التكافل أو أسواق رأس المال، هي باب من أبواب التعريف بالإسلام، وعدم الحرص على إتقانها يكون مسيئا لباب دعوي اقتصادي واسع، لذلك من واجب القائمين عليها وصناع القرار الالتفات إلى حساسية تعدد الفتاوى فيما يتعلق بها خاصة، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة توفيقية بين المدارس التي هي عنوان هذا المقال؛ وبالتالي قد لا تكون المبادرة هذه هادفة للبت وإنما للاحتمال القائم على أهواء ومصالح للمتنفذين في هذه المؤسسات، مما يشكل خطورة دعوية ومالية واقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي