مافيا الرياضة

يرجع تاريخ كلمة المافيا إلى القرن الـ13 مع الغزو الفرنسي لأراضي صقلية عام 1282، حيث تكونت في هذه الجزيرة منظمة سرية لمكافحة الغزاة الفرنسيين فجاءت كلمة (مافيا MAFIA) من أول حرف من كلمات الشعار وهو الصرخة الهسيرية الذي أطلق في ذلك الوقت نشأت المافيا في وقت ما خلال منتصف القرن الـ19 وأصبحت بحلول الربع الأخير من القرن الـ19 القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المسيطرة في غربي صقلية، وكانت في بادئ الأمر في أعمال الحماية والابتزاز في منطقة بالرمو وما حولها من مزارع الليمون والبرتقال.
يتبع أفراد المافيا قواعد وقوانين خاصة تشبه إلى حد بعيد التنظيم العسكري دقة وصرامة، وتسعى في أهدافها البعيدة إلى خدمة القضية (العائلية) الواحدة. على رأس تلك القواعد تأتي Omertà أو قاعدة ''الصمت'' التي تمنع إفادة الشرطة بالجريمة أو مرتكبها. فقد جرت العادة بين سكان المدن الإيطالية ألا يشي أحد بما يعلم إلى السلطات، ولا يتحدث عمّا رأى بأم عينيه ولا ما سمع بأذنيه؛ لأن الثمن هو حياة الواشي أو حياة أقربائه. وتحرّم تلك القاعدة - القانون على المنتمي إلى المافيا البوح بأسرار العائلة، مهما كانت الأسباب والظروف، وإلا تعرض للعقوبة الوحيدة للقتل.
كان لا بد من هذه المقدمة حتى نقارن بين المافيا ومافيا الرياضة التي ظهرت في عصرنا هذا بطرق متعددة منها قتل الرياضي عن طريق حرمانه من ممارسة الرياضة باقي عمره ولنعد بالذاكرة إلى الوراء قليلا لنجد أنه في زيوريخ برّأت لجنة القيم في الاتحاد الدولي لكرة القدم ''فيفا'' ساحة الرئيس سيب بلاتر من ارتكاب أي خطأ خلال حملة إعادة ترشيحه، بينما تم إيقاف منافسه محمد بن همام، الذي انسحب من سباق الرئاسة قبل ساعات من القرار بشكل مؤقت.
تم فتح تحقيق ضد محمد بن همام منافس بلاتر الوحيد على رئاسة ''فيفا'' في الانتخابات وجاك وارنر ويتعلق التحقيق باجتماع لاتحاد دول الكاريبي، لكنها قررت إيقاف بن همام ووارنر بشكل مؤقت لاستكمال التحقيق في مزاعم دفع 40 ألف دولار لكل عضو في الكاريبي من أجل التصويت لابن همام في الانتخابات.
لقد هاجم كارل هاينتس رومنيجيه بلاتر؛ لأنه دائم الدفاع عن ''فيفا''، على الرغم من أن العالم كله يعلم حقيقة الوضع داخل ''فيفا''؛ فبلاتر وأمثاله اعتدوا كثيرا على اللعبة في السنوات الماضية، وأكد رومينيجه أن ''فيفا'' مؤسسة فاسدة، وأشار إلى أن الأندية الأوروبية قد تسعى للاستقلال عن الاتحادات التابعة لها، مهددا بثورة أندية أوروبا إذا لم تشهد عملية إدارة اللعبة تغييرا واضحا.
ويبدو أن تصريحات بعض أعضاء اللجنة التنفيذية لـ''فيفا''، ناهيك عن تلميحات رئيسها سيب بلاتر بالتفكير حول إقامة مباريات كأس العالم في قطر في الشتاء؛ لأن الحرارة ستكون مرتفعة في فصل الصيف، أخيرا دفعت الصحف الأوروبية عموما، وفي البلدان التي فشلت في استضافة نهائيات كأس العالم لعام 2018 خصوصا، إلى صب جام غضبها وانتقادها للطريقة التي تسير بها أكبر منظمة لكرة القدم في هذا الكون، واقتراح للألماني فرانز بيكنباور عضو اللجنة التنفيذية لـ''فيفا'' من إقامة هذه المنافسات في كانون الثاني (ديسمبر).
إن عدم نزاهة ''فيفا'' وحجم الفساد الذي استشرى في جسد هذا التنظيم والتي وضحت أخيرا بعد الأحداث التي كادت تعصف بالاتحاد الدولي لكرة القدم أن محمد بن همام الذي كان صديق بلاتر على مدار عقدين ونصف العقد، بل ويؤكد بلاتر في كل لقاءاته أن القطري صديقه وأخوه، وأنه لا يعرف ماذا كان سيفعل من غير بن همام؟.. وإذا به فجأة يتحول إلى العدو اللدود، فقط لأنه فكّر في منافسته منافسة شرعية على المقعد الأكبر في ''فيفا''، وهذا ما يؤكد أن بلاتر بعيد كل البعد عن الحقيقة والصراحة، وهذا ما ذكرته من قبل؛ فبلاتر قد كذب على العالم كله حينما قال إنه سيترشح لدورتين فقط، فإذا هو متجه نحو الدورة الرابعة، بل سيستمر إلى أن (يخرف)، بل سيستمر بعد (الخرف) إلى دورتين أخريين.
على بن همام ألا يقف في الدفاع عن نفسه على لجنة القيم والأخلاق في ''فيفا'' وهي اللجنة الداخلية التي يوجهها بلاتر بالريموت كنترول، وهذه اللجنة التي تحقق في قضايا الفساد يرأسها سويسري وأعضاؤها معينون من قبل رئيس ''فيفا''، ونذكر الاتهامات التي طالت بلاتر منذ أول انتخابات رشح لها في عام 1998، حيث اتهم بالرشوة، وهذا يظهر بأن ''بلاتر لديه من الخبرة والدراية بخفايا الاتحاد الدولي منذ أن كان أمينا عاما له، ولديه الخبث والدهاء ليتعامل مع كل القضايا، فالمنظمة الدولية تعرضت لهزات كبيرة إبان رئاسته، أكثرها مالية وقضايا رشا، إلا أن بلاتر يخرج منها سالما، وعلى بن همام تصعيد الأمر إلى المحكمة الدولية، خاصة وأنها منفصلة عن ''فيفا''، وقد يستطيع هناك استعادة حقه ''إذا كانت ثمة نزاهة في الرياضة الدولية أو لم تطلها أيدي مافيا الرياضة.
إن الاتحاد الدولي لكرة القدم الذي كان إمبراطورية تسهم في المتعة الرياضية، وبفضل بلاتر وانتهاجه أسلوب المافيا في العمل أصبحت هذه الإمبراطورية تسمى ''الإمبراطورية الفاسدة''؛ لأنها وصلت إلى وضع متأزم أفقدها مصداقيتها وتمرغت نزاهتها في وحل الفساد، خاصة أنها ترعى رياضة أصبحت الآن عشقا للصغار قبل الكبار ودخلت البيوت من أوسع أبوابها؛ مما يستوجب أن تكون الأنظف والأكثر نقاء وطهارة، لأن تأثيرها سيشمل الجميع.
ومثلما كانت المافيا تعتمد على رئيسها صاحب السلطة والقوة التي يرهب بهما أعداءه أو الذين يقفون في وجهه أصبحت ''فيفا'' مؤسسة مختصرة في شخص رئيسها السويسري بلاتر، ويمكنه أن يحقق ما يريد، خاصة أن كل اللجان تعمل تحت إمرته، والتمثيلية التي ظهر بها حول موافقته على إجراء التحقيق معه ما هي إلا للاستهلاك الإعلامي وفي إطار خطته لاتهام الآخرين والظهور بمظهر الحمل الوديع والطفل البريء الذي يضرب الآخرين ثم يأتي يتباكي متظلما، هذه الأمور أصبحت واضحة ومعروفة، لكنه ظل يمارسها وكأن البشر كلهم حول الأرض أغبياء، وهذه إحدى ممارسة المافيا في تاريخها العريض، خاصة أن بن همام وفي حملته الانتخابية أطلق شعار طرد الفساد من المنظمة الدولية ومعنى ذلك كشف كل مؤامرات بلاتر في تاريخه الطويل؛ لذلك استعمل بلاتر سلطة المافيا بإقصاء بن همام الذي أصبح يشكل خطرا يهدد سلطة بلاتر، بل إن مجرد التفكير بالإطاحة به كان بالإمكان أن يقوم بإعلان الحرب على الجميع في سبيل بقائه في دائرة السلطة.
لقد كان بن همام مثاليا حينما قرر الانسحاب من الانتخابات الماضية؛ وذلك احتراما لشخصه وتاريخه وما قدمه لكرة القدم محاولا المحافظة على قدسية الاتحاد الدولي لكرة مؤكدا أنه يحاول الحفاظ على كيان ''فيفا'' وعدم تعرضه لهزة قد تطيح به والرجل يحترم ''فيفا'' ويعرف كيف يحافظ على احترامه، هذا وهو الرجل المحنّك والمعروف بإمكاناته وعمله وبتاريخه وكذلك نزاهته، ودعونا نتنبأ بماذا سيحدث بعد فرض بلاتر سيطرة المافيا على مجريات الأمور واستمراره في اتخاذ أساليب البطش مع معارضيه، بل مع كل من يحاول الاقتراب من عرش الإمبراطورية، أنا أتوقع أن يحدث شرخ كبير في المنظمة الدولية وسينكشف المغطى ويتساقط أفراد مافيا الرياضة الواحد تلو الآخر، ولي حديث آخر حول مافيا الرياضة العربية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي