حكم العسكر: نهاية الميراث السيئ
المتتبع لتاريخ الحكومات العربية خلال القرن الـ20 يلحظ، أن غالبية الدول العربية بعد جهاد مضنٍ وطويل مع المستعمرَين الإنجليزي والفرنسي، أصبح وضعهم كالمستجير من الرمضاء بالنار. ففي مصر قامت ثورة الضباط الأحرار (بإملاءات استعمارية خفية) فاستهلوا ثورتهم بالأحكام العرفية والتأميم التي هي في الواقع مصادرة للفكر والثروة، وتحت مصطلح الرجعية والعمالة خُوّن الشرفاء والمخلصون، وبإيحاء استعماري تم إنشاء ما يسمى الإصلاح (الإتلاف) الزراعي، الذي عن طريقه تم تقليص الأراضي الزراعية ومنع زراعة القمح والمحصولات الزراعية الاستراتيجية وحولت أهم الأراضي الزراعية إلى مصانع، غير مدروسة لم يكتب لها الله التوفيق. فكانت النتيجة تشرذم الشعب المصري وإفقاره وتخلفه تقنيا وعلميا، فسجل رقما قياسيا في الأمية، وأصبحت العمالة المصرية غير المتعلمة أكبر عمالة متنقلة في العالم العربي. أما المثقفون فقد كبكبوا في السجون لمجرد التعبير عن الرأي أو مخالفة سيادة الرئيس، أو أن يعترضوا أو يعلقوا على شعار من شعارات الثورة.
تميز حكم العساكر في عموم الوطن العربي بمصادرة الفكر وتهجير من يحاول أن يفكر أو يبدع، حتى أصبح هناك نزيف للعقول العربية احتضنها الغرب فأبدعت في كل المجالات. كما وضعت قوانين صارمة لمنع أي تطور اقتصادي يقوم على قاعدة شعبية، وقضي على الاقتصاديات المنتجة، واستبدلت باقتصاديات طفيلية وخدمية. فمثلا، بدلا من التوسع في فتح المصانع جاؤوا بمصطلح براق اسمه (صناعة السياحة)، وهي مزيج من خمر وعهر. فلو كانت سيناء بمساحتها الشاسعة عند أمة أخرى، لتحولت إلى واحة زراعية تغذي العالم العربي، ولكن فُرض عليها أن تكون منطقة معالم سياحية وشواطئ يتفسح ويتشمس فيها الخواجات، ويرمى الفتات للأعداد القليلة القاطنة في تلك الصحراء من المصريين، بينما صناعة السياحة التي تدر مئات الملايين تصب في جيوب أصحاب مراكز القوى.
انتقلت عدوى الانقلابات العسكرية القبيحة إلى الشام وبلاد الهلال الخصيب والذي كان له من اسمه نصيب، فأول ما قام به العسكر في العراق هو تطبيق مبدأ الإصلاح الزراعي المصري الذي عن طريقه تم إفساد زراعة الأرز والقمح ومصادرة الأراضي الزراعية من ملاكها، بمصطلح جديد اسمه القضاء على الإقطاع، وتم بموجبه إفقار كبار المزارعين، حتى تحول أكبر مزارع في العراق (الشيخ محمد العريبي) إلى رجل معدم، بل أن أحد أبنائه أصبح يدير مقهى لخدمة الأفندية والترويح عن البطالين.
من أهم سمات العسكر ضيق الأفق والعناد وكثرة الكلام والخطابة والشعارات الرنانة، والادعاء بحرصهم على ممتلكات وأرواح الناس، وهم أكثر من يستهتر بها ويهلكها. لذا فهم لا يقبلون الآخر ولا يرضون بالنصح؛ لأنه من عوامل إثارة الشغب والفتن بزعمهم، على شعوبهم المخدرة إجباريا، كما أنهم لا يعترفون بالأخطاء فهم المعصومون، وما كوارث صدام عنا ببعيد!!
لو قارنا كذلك، كيف تصرف الهالك القذافي وبشار الأسد وعلي صالح، إزاء مطالب شعوبهم بالحرية والعدل، وبين تصرف ملك المغرب أو ملك البحرين أو الأردن لوجدنا، رغم الكثير من التقصير وعوامل النقص، أنهم أكثر استجابة وتفاعلا مع المستجدات والمتغيرات. فبعد ثورة الربيع العربي أصر العسكر على فرض أسلوبهم الأمني وتفضيل عناصرهم على من سواهم، والاستحواذ على السلطة والمال العام، فكانت النتيجة دمارا لهم ولشعوبهم، وفي المقابل أقر الملوك بوجود أخطاء ووافقوا على دسترة دولهم ولو جزئيا، وتمثيل جميع أفراد الشعب، عبر برلمانات منتخبة لتقرير مصالح شعوبهم وتجنيب البلاد مخاطر الثورات.
إن الدروس المستفادة مما جرى ويجري كبيرة جدا، ليس أقلها أن الاستبداد وحكم الفرد الذي كرسه العسكر لم يعد مقبولا، وأن سياسة الإفقار والإذلال، وتضخيم الأجهزة الأمنية لا تحمي المستبد حتى لو امتلك عشرات الأجهزة الأمنية وألوف العساكر والعناصر الأمنية. إن الأمة الآن تنفض عنها ميراث طويل من حكم العسكر، اتسم بالاستبداد والفساد والتسلط والاستئثار بالقرار والسلطة وسرقة المال العام والارتباط بالمستعمر على حساب المصالح الوطنية العليا.