الريال الإيراني على حافة الانهيار

يبدو أن العقوبات الغربية على الاقتصاد الإيراني بدأت تحدث آثارها بشكل واضح على معدل صرف الريال الإيراني، فقد شهد الأسبوع الماضي انخفاضا واضحا في قيمة الريال، فبينما بلغ معدل صرف الدولار يوم الإثنين قبل الماضي في السوق السوداء 24000 ريال للدولار، قفز يوم الثلاثاء 2/10/2012 معدل صرف الدولار بالريال إلى 36000 ريال للدولار (وفقا لموقع mazanex الذي يتتبع تطور معدل صرف العملات الأجنبية والذهب بالريال الإيراني)، وهو ما يعني أن الريال الإيراني قد فقد في خلال أسبوع حوالي نصف قيمته تقريبا. السعر الرسمي للدولار وفقا للبنك المركزي الإيراني هو 12260 ريالا، ما يعني أن السعر الرسمي للدولار أصبح يساوي حاليا ثلث قيمته في السوق السوداء تقريبا، وهو انخفاض كبير جدا للعملة ويشير إلى أن العملة الإيرانية هي بالفعل على حافة الانهيار.
هذا الفارق الكبير بين السعر الرسمي للدولار وسعر السوق السوداء يشير إلى تصاعد الضغوط في سوق النقد الأجنبي على الريال نظرا لنقص العرض من العملات الأجنبية بالنسبة للطلب عليها. من ناحية أخرى إذا استمر معدل صرف الريال في التراجع على هذا النحو الخطير في السوق السوداء، فإن التخفيض الرسمي للريال سيصبح أمرا حتميا، وهذا ما تثبته تجارب كافة الدول التي يوجد بها سوقان للنقد الأجنبي ومعدلان للصرف، أحدهما لا يعكس قوى السوق ويتم تحديده أساسا من خلال البنك المركزي بصورة رسمية بغض النظر عن اتجاهات طلب وعرض العملات الأجنبية، والثاني يعكس ضغوط قوى الطلب والعرض على النقد الأجنبي، بما في ذلك ضغوط المضاربة، وهو ما يطلق عليه أحيانا السوق الموازية أو السوق السوداء للنقد الأجنبي. تجربة الدول التي يوجد بها سوقان للنقد الأجنبي أثبتت أيضا أن قيمة العملة المحلية ستتحدد إن آجلا أو عاجلا بالتطورات التي تحدث في السوق الموازي أو السوق السوداء، حيث تؤدي الضغوط في هذا السوق إلى تراجع قيمة العملة المحلية، ومع استمرار اتساع الفارق بين قيمة العملة المحلية في السوق الرسمي (البنك المركزي) والسوق الموازي أو السوداء، يضطر البنك المركزي في النهاية إلى التدخل لتخفيض قيمة العملة لكي يقترب السعر الرسمي من السعر في السوق السوداء أو الموازي.
كان من المفترض أن يكون الرد الطبيعي على مثل هذا التدهور في قيمة الريال أن يقوم البنك المركزي الإيراني بالتدخل المكثف في سوق النقد الأجنبي وذلك بضخ كميات كافية من العملات الأجنبية لتخفيف الضغوط السوقية على الريال من خلال تغطية الفجوة بين الطلب على النقد الأجنبي والعرض منه، وذلك حتى يحافظ البنك المركزي على معدل الصرف الرسمي للريال من التدهور، غير أنه من الناحية الفعلية يبدو أن البنك المركزي الإيراني غير قادر، أو ربما يكون غير مستعد لذلك، آخذا في الاعتبار توقعاته حول سيناريوهات إيراداته المستقبلية من النقد الأجنبي والكميات المتاحة منها حاليا ومعدلات السحب المتوقع نتيجة ذلك. فبدلا من التدخل المباشر في سوق النقد الأجنبي لجأ البنك المركزي الإيراني إلى إنشاء مركز لتحويل العملات الأجنبية وفقا لنظام الأولويات، وهو نظام تلجأ إليه الدول التي تواجه نقصا في عرض النقد الأجنبي بشكل عام.
فعندما تنحسر موارد النقد الأجنبي للدولة في ظل استمرار الطلب مرتفعا على الواردات من الخارج، فإن البنك المركزي غالبا ما يلجأ إلى ما يسمى نظام الأولويات في عملية تخصيص الكميات المتاحة له من النقد الأجنبي في ظل نظام للحصص الاستيرادية، حيث تعطى الأولوية الأولى في عملية تدبير العملات الأجنبية للاحتياجات الضرورية للدولة كاستيراد الطعام مثلا، ثم ما يليها من حيث الأهمية كاستيراد الآلات والمعدات والمواد الخام، وهكذا، بينما لا يتم تدبير العملات الأجنبية للاحتياجات الأقل ضرورة مثل طلبات استيراد السلع الكمالية أو الخدمات غير الضرورية من وجهة نظر الدولة. وبالتالي ينبغي وفقا لهذا النظام، على كل من يرغب في استيراد سلعة أو خدمة من الخارج، أن يتقدم بطلب إلى الإدارة المختصة كي يتم تدبير احتياجاته من النقد الأجنبي، فتتم الموافقة على بعض الطلبات ورفض الأخرى التي لا تستوفي الشروط التي تضعها الدولة حول طبيعة السلع التي سيتم تمويل استيرادها من الخارج.
هذا لا يعني بالطبع أن من يرغبون في الحصول على هذه السلع سيمتنعون عن استيرادها من الخارج، فالتجربة العالمية أثبتت أن كل عملية رفض لتمويل صفقة استيراد من الخارج من خلال موارد النقد الأجنبي الرسمية، سيقابلها عملية طلب جديدة على النقد الأجنبي في السوق السوداء، وبالتالي فإنه مع كل عملية رفض للتمويل من جانب البنك المركزي تتزايد الضغوط على قيمة العملة الوطنية في السوق السوداء، وتلك هي المحنة التي تعاني منها الدول التي تكون مواردها من النقد الأجنبي قاصرة عن توفير كافة احتياجاتها منه.
التراجع الكبير في قيمة الريال الإيراني منذ الأسبوع الماضي حدث أساسا في أعقاب قيام الحكومة بإنشاء مركز تحويل العملات الأجنبية كي يتولى عرض العملات الأجنبية لتمويل واردات السلع الأساسية بمعدلات صرف أقل من المعدلات السوقية، وبدلا من أن يترتب على ذلك تخفيض المخاوف حول مدى توفر العملات الأجنبية للسلع الأساسية فإن إنشاء المركز أدى إلى زيادة التسابق على العملات الأجنبية نظرا للآثار السلبية التي تركها إنشاء المركز على التوقعات حول درجة توافر عرض العملات في إيران وفقدان الثقة بقدرة البنك المركزي على استيفاء احتياجات البلاد من العملات الأجنبية.
التطورات الأخيرة لمعدل صرف الريال الإيراني في السوق السوداء للنقد الأجنبي تشير إلى أنه من الواضح أن إيران تواجه نقصا حادا في إيرادات النقد الأجنبي نتيجة المقاطعة الغربية للنفط الإيراني الذي يشكل العصب الأساسي للصادرات الإيرانية ومصدر العملات الأجنبية الأساسي لإيران. حيث تقع إيران حاليا ضحية للحصار الاقتصادي الذي ينعش المعاملات في السوق غير الرسمية للعملات الأجنبية. فالعالم يضع إيران اليوم في وضع الاختيار بين طموحاتها النووية وبين المقاطعة ومواجهة النتائج السيئة التي يمكن أن تترتب عليها. حاليا تقدر خسائر الإيرادات النفطية لإيران من المقاطعة بحوالي 50 مليار دولار لهذا العام، وهو نقص كبير في موارد النقد الأجنبي للدولة كان من الممكن أن يساعد في سد الجانب الأكبر من النقص في العرض من الدولار والعملات الأجنبية الأخرى وهو ما كان يمكن أن يساعد في خفض الضغوط على الريال نحو التراجع، ومما لا شك فيه أن مثل هذه التطورات السلبية سوف تشجع القوى الغربية المعادية لإيران على محاولة الضغط على إيران بصورة أكبر لخنق مصادرها التقليدية من النقد الأجنبي حتى تحدث أزمة عرض داخليا بسبب نقص إمدادات الواردات من ناحية وارتفاع معدلات التضخم من ناحية أخرى.
في ظل المقاطعة سوف تنشط بالتأكيد عمليات التهريب السلعي تصديرا واستيرادا، ولأن الإيرادات الناجمة عن صادرات السلع المحلية من خلال التهريب لا تسلم إلى البنك المركزي، وإنما تأخذ طريقها إلى السوق السوداء، كما أن واردات السلع من الخارج التي تتم من خلال عمليات التهريب السلعي يتم تمويلها أساسا من خلال السوق السوداء، فإنه من المتوقع أن تشهد السوق السوداء للنقد الأجنبي نشاطا أكبر في الفترة القادمة، وهو ما قد يتسبب في تصاعد الضغوط على الريال وتراجع معدلات صرفه.
أخطر النتائج التي ستترتب على تراجع الريال على هذا النحو الكبير هي أنه سيؤدي إلى تغذية كل من معدلات التضخم الفعلية والتوقعات التضخمية في المستقبل، وهو ما يوفر الظروف المثالية لخروج جني التضخم من القمقم، ومن ثم صعوبة السيطرة عليه أو استعادة الأسعار إلى مستوياتها قبل التراجع. من ناحية أخرى، فإن تراجع معدل صرف الريال سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج على نحو واضح، بصفة خاصة تلك التي تعتمد على مدخلات مستوردة من الخارج، الأمر الذي سيصاحبه انخفاض في فرص التوظف وزيادة معدلات البطالة بصورة أكبر مما هي عليه حاليا، لكي تواجه إيران حالة تضخم ركودي نتيجة لذلك، فهل سيشهد العالم تضخما جامحا في إيران على النمط الذي شهدناه في زيمبابوي في 2009؟ سؤال ستجيب عنه التطورات على أرض الواقع خلال الأيام القادمة في إيران.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي