الاحتباس الخيري!
هناك مؤشرات نمو متسارعة في وعي المجتمع ورغبته وقدرته فيما يتعلق بالعمل الخيري، وعي بدور العمل الخيري في حل كثير من المشكلات المحلية والعالمية، وتتزامن مع هذا الوعي رغبة في المساهمة من قبل أفراد المجتمع في ممارسة العمل الخيري والتطوعي كانعكاس لهذا الوعي، وكتعبير لحق فطري بعيداً عن أسوار البيروقراطية والبيروقراطيين. ومع هذا الوعي وتلك الرغبة يمتلك المجتمع القدرة على ذلك، من خلال ما يحمله من قدرات وأوقات وأموال. ويغذي هذا النمو في الوعي والرغبة والقدرة عوامل عدة، منها الاطلاع على تجارب الدول الأخرى ودور القطاع الخيري الفاعل فيها، وقصور أداء بعض الأجهزة الحكومية في معالجة بعض المشكلات المزمنة في المجتمع كالفقر والبطالة والسكن. وعلى النطاق الخارجي تكرار النكبات والأزمات في العالمين العربي والإسلامي التي تحرك المشاعر وتطرق الضمائر وتستصرخ نخوة بلد يراه العالم قبلة المسلمين وقدوة للعرب أجمعين بينما هو يجد ذاته مقيدا بقنوات خيرية محدودة تكبلها تعقيدات الحرب على الإرهاب الذي عجزعن الانفكاك منها، فيما نجح جيرانه القريبون في ذلك.
في المقابل هناك مؤشرات قد تفهم على أنه تباطؤ من قبل الجهاز الحكومي في استيعاب وعي المجتمع المتزايد بدور العمل الخيري، والرغبة في ممارسته كحق فطري مشروع، تزامنا مع قدرة مالية تتعاظم لدى شريحة من رجال وشباب الأعمال. ومن هذه المؤشرات على سبيل المثال عدم وجود ما يشير إلى اعتبار القطاع الخيري شريكا حقيقيا في مسيرة التنمية، خلافاً للعرف العالمي هذه الأيام، والإبقاء على أغلبية الأعمال الخيرية تحت مظلة الجهاز الحكومي، وهو ما يتنافى مع مبدأ استقلالية القطاع الخيري عن القطاع الحكومي، إضافة إلى البيروقراطية القاتلة في افتتاح جمعية أو مؤسسة خيرية، ورابع المؤشرات تأخر صدور الأنظمة المنظمة للعمل الخيري، فنظام الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الأهلية، الذي من شأنه أن يحدث نقلة نوعية في العمل الخيري السعودي، ما زال حبيس الأدراج منذ عام 1428 وهو نظام في صورته العامة يدفع نحو استقلالية الجمعيات الخيرية، ويمنحها مرونة أكثر، ويشجع على المشاركة المجتمعية، كما أن نظام الهيئة العامة للأوقاف على ما فيه من ملاحظات تخص استقلاله، يسير ببطء شديد منذ أن أعلن عنه في عام 1431، وهو نظام جدير بأن يستوعب رؤوس الأموال الخيرية التي لم تجد في وكالة الأوقاف التابعة لوزارة الشؤون الإسلامية مكاناً آمناً لأموالهم الوقفية. ومن المؤشرات ما يمكن فهمه على أنه رغبة الجهات ذات العلاقة في عدم فك الارتباط بين العمل الخيري السعودي الخارجي وأنظمة تمويل الإرهاب والتعامل معه من زاوية أمنية بحتة، مغفلة النواحي المهمة الأخرى، بينما تجاوزت ذلك دول خليجية أخرى كالكويت وقطر.
إن تنامي الوعي والرغبة والقدرة الخيرية لدى المجتمع، وتباطؤ الجهاز الحكومي في استيعاب ذلك واستثماره، سيحدث احتباسا لدى المجتمع. وإذا لم تتدارك الحكومة ذلك فإن علينا ألا نستغرب اجتهادات خيرية فردية متكررة، ومشاربع خيرية خارج نطاق السيطرة، وربما هجرة بعض رؤوس الأموال الخيرية السعودية إلى بيئات أكثر تفهماً وعناية.