متطلبات تدويل التعليم العالي

في تقرير نشر قبل عامين يشرح استراتيجية أيرلندا لقطاع التعليم العالي حتى عام 2030؛ حيث توافق في أسسه مع توجهات دول الـ OECD، وضح أن العالم يتحرك بأساليب عصرية قليل ما يدركها وقادر على اتباعها دول أخرى سواء كانت أوروبية أو آسيوية أو إفريقية. الالتزام بوضع استراتيجية متجددة لمثل هذه الدول اعتراف صريح بأنها تمر بمرحلة انتقالية تستدعي التأقلم والتكيف للمحافظة على الاستمرارية بالقوة نفسها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبالطبع علميا. وهذا يجعلنا نخفف القسوة على أنفسنا بأننا تخلفنا أو تأخرنا أو انحرفنا عن الجادة، لأن التأثير واضح أنه عالمي ولكن هو في حاجة لوقفة وتأمل بشكل مهني وعلمي وعصري في الوقت نفسه لتنفيذ ما نرتئيه وأصبح رسالة لنا.
لقد ركزوا في التقرير على أن أسباب وضع هذه الاستراتيجية متعددة، ولكن كان من أهمها: أن الأشخاص المؤهلين في قطاع التعليم العالي مختلفون عما كانوا في السابق كما ونوعا. هذه الكلمات تحتاج لشرح طويل قد تحتاج لمقال آخر ولكن قد تفسرها السطور القادمة. أما الطلاب فقد أصبحت لهم نظرة جديدة في المحتوى والأساليب. ومفهوم البطالة على صعيد آخر اختلف باختلاف أنماط العمل المتجددة، وليس بكم الوظائف المتاحة أو الأعداد المتزاحمة على عدد محدود من هذه الوظائف أو غيرها. وبالتالي أصبحت العجلة تدور بسرعة عالية مركزة على الاحتياج لتنويع المهارات والتعلم مدى الحياة. كما أنهم وجدوا بالدراسات المتأنية أن هناك حاجة ''وهي عالمية'' لذوي المهارات الخاصة والقدرات المتميزة من حملة الشهادات العليا، والحاصلين على الجوائز الدولية المرموقة، والمكتشفين لاختراعات علمية وصناعية جديدة. هذا الجانب ''الإبداع الفكري'' جعل السباق محموما بين الدول لتسجيل سبق أو تحقيق تطور وتنمية غير مسبوقة سواء في المؤسسات التعليمية أو أكبر المنشآت التجارية أو المصانع أو حتى في مسيرة التطوير الإداري. ووضح فعلا أن أعداد المتميزين في العالم باتت قوائمها تتسع، وبالذات من الباحثين والمبتكرين والمخترعين والعلماء والقياديين الملهمين، ومع ازديادها، إلا أنها لا تغطي حجم الحاجة لها ميدانيا وواقعيا. هذا جعل في استراتيجيتهم بناء أجيال تقوم على صناعة الفرق محليا في مسيرة التعليم العالي، ومن ثم تصديرهم لتسويق اسم ومنتج ونموذج له خواصه ومميزاته التي كرست الدولة خلال عقدين من الزمن بناءهم.
لا شك أن نظم التعليم العالي في الدول الأوروبية أو حتى الأمريكية تعتمد على وقوف قطاعات الدولة بجواره تدعمه وتعزز خططه، وتخصص الموارد المختلفة في سبيله، وتسخرها ليبقى المحرك الأساس للاقتصاد، وحارسا للعلم، ومعززا للثقافة كداعم مباشر لهذا الكيان. بل إن هذه الدول تقدم هذا القطاع في المشورة ووضع الاستراتيجيات ورسم خرائط الطرق المختلفة، ومن ثم القيادة لأنهم يثقون بقدرات المنتمين له والمنسوبين ذكورا وإناثا. يدل على ذلك الاعتماد على الكفاءات وتدويرهم للاستفادة منهم في مواقع مختلفة بعد أن تم تأهيلهم بنظم تكون الجودة في تنفيذها أسسا لا يمكن الحيدة عنها.
من ناحية أخرى في تدويل التعليم العالي لم تكن أيرلندا إحدى هذه الدول أول من يحاول تدويل التعليم العالي، ولكن أصبحت تهدف لأن تستفيد من الجنسيات المختلفة على أرضها، ولديها القدرة على صنع الفرق بعد جذبها لتبني مقومات البلد الشامخ وتؤسس لروابط تؤصل لعلاقات طويلة الأمد. وبما أن التعليم يمكن أن يكون عن قرب وعن بعد أيضا، فإن العقبة التي كانت تؤرق تنقل الطلبة والمتعلمين لم تعد موجودة، فوضعت التوقعات أنه باستخدام وسيلة التعليم عن بعد سيكون للدولة شأن آخر.
في رؤيتهم أن يحل عام 2020 ويكون التركيز في الدولة على التعليم العالي ومخرجاته كمحور أساسي للتنمية. ولكن بحلول عام 2030 سيكون المجتمع متحركا بذات الفكر ومبدعا في كل خطوة يقوم بها، فلا يعود للوراء بعد ذلك أو يسجل إخفاقا من أي نوع لأنهم وضعوا القواعد لقرن قادم. وبالطبع توجه مثل هذه الدول لجذب الأمم الأخرى بالترويج لموارد لم تستغل بعد أو قدرات وإمكانات لم تكتشف، أو اقتصاديات مغرية يمكن أن تنعش قطاعات الدولة الأخرى بمجرد تحريكها ببعض الذكاء. وإذا ما كانت الجودة مظلة كل عمل فلا شك ستمتد هامَةُ الدولة لعقود صامدة تقاوم كل تغير سلبي وتتماشى مع كل تغير إيجابي، لأن بناء القاعدة البشرية تنوع واعتمد الأساليب الحديثة في تناول القضايا كلها.
بعد مرور عشر سنوات فقط وضح جليا مدى التأثير الذي انعكس على قطاعات الدولة المختلفة؛ حيث طورت القوانين العامة مواد وفقرات وبنود، وحورت المسؤوليات من هذا القطاع لذاك، وطورت الآليات، واعتمد على المواطن بعد تعليمه وتطوير منهجية التفكير العلمي في كل القطاعات. بل بدأوا التفكير في التدويل لأن التلاقح الفكري ازدهار في حد ذاته. في هذا السياق بلغت خلال العامين الماضيين نسبة الطلاب الأجانب في جامعات أيرلندا من غير الأوروبيين والبريطانيين ما يعادل 8 في المائة من إجمالي الطلبة الملتحقين بها بين ذكور وإناث. وهم الآن ماضون للانفتاح نحو العالم لتحقيق نسب تؤمن لهم فرصا لتكوين الخبرات وتحقيق الآمال اقتصاديٍّا. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي