احتياطيات هائلة مقابل تنامي احتياجات المواطن
صدرت أمس ميزانية الدولة لعام 2013، وموازنة العام المالي المقبل 2014، حملت في ثناياها عددا من المؤشرات والتوجهات الإنمائية البالغة الأهمية، حاملة على عاتقها آمالا وطموحات تسعى حثيثا نحو تحقيق مزيد من الإنجاز على طريق الإنماء الشامل والمستدام، وأتت ترجمة دقيقة لتطلعات قيادة طموحة مستجيبة لاحتياجات المجتمع السعودي، لا ينقصها إلا أن تترجم فعليا على أرض الواقع.
لن تكرر القراءة التحليلية، هنا، الأرقام التي وردت في بيان الميزانية الصادر من وزارة المالية بالأمس، بقدر ما أنها ستتركز على قراءة ما بين سطورها وأرقامها، وربطها بما سبق من ميزانيات لأكثر من أربعة عقود مضت، ولعل جهدا في هذا الجانب، تم التطرق إليه في مقالاتي الأخيرة قبل صدور الميزانية بأسابيع قليلة.
أسفرت الميزانية العامة الفعلية للعام المالي 2013، عن الفائض الـ 22 في تاريخ الميزانية الحكومية منذ 1969، بلغت قيمته 206 مليارات ريال (نحو 7.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، مُسجّلة إيرادات إجمالية بلغت 1.13 تريليون ريال، منخفضة بنحو ــــ 9.3 في المائة مقارنة بالإيرادات الفعلية للعام المالي السابق.
وارتفعت المصروفات الإجمالية إلى 925.0 مليار ريال، مُسجّلة نسبة ارتفاع 5.9 في المائة مقارنة بالعام السابق، وأسهم هذا بدوره، في خفض مستوى الدَّين الحكومي لما دون 75.1 مليار ريال (نحو 2.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، ويعد من أدنى مُعدّلات مديونية الحكومات في العالم، إن لم تكن الأدنى.
#2#
دعم التراكم الإيجابي لتلك الفوائض طوال الـ 11 سنة الماضية (باستثناء العجز الطارئ في عام 2009 بنحو 86.6 مليار ريال) كثيرا، وحسن من فرصها وإمكاناتها على مختلف المستويات، لعل من أبرزها:
1 ــــ تمكين المالية العامة من إطفاء تسعة أعشار الدَّين الحكومي العام (89.0 في المائة)، وخفضه من أعلى مستوياته المُسجّلة في عام 2002 عند 685.2 مليار ريال (97.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) إلى المستوى المشار إليه أعلاه؛ أي سداد ما يقارب 610.1 مليار ريال.
واستمرت مؤشرات التحسن في هذا الجانب في الفترة الماضية، ورسخت المالية العامة على أرضية صلبة، تمثلت في وقوفها اليوم على رصيد تاريخي من الاحتياطيات، يقدر أن تناهز قيمته على نهاية العام المالي نحو 2.8 تريليون ريال.
2 ــــ أتاحت تلك الفوائض المالية القياسية، فرصا واسعة جدا لتوسع الإنفاق على مشاريع تنموية جديدة، تركزت على دعم وتطوير البنية التحتية للاقتصاد الوطني، ووسعت بدورها من القدرة الاستيعابية للاقتصاد، وزادت من قدراته الإنتاجية، بصورة يؤمل تعزيزها لتوفير فرص استثمار محلية أفضل في الوقت الراهن ومستقبلا، ما سيسهم في جذب المدخرات الوطنية لتأسيس مزيد من المشاريع المتعلقة بالإسكان والطرق والمطارات والسدود، وعديد من متطلبات التنمية المستدامة والشاملة للبلاد، وبدا ذلك واضحا من اندفاع المالية العامة نحو مضاعفة إنفاقها الرأسمالي.
الميزانية تستمر في دعم الاقتصاد الوطني
اعتمدت الميزانية العامة طوال 43 عاما مضت، ولا تزال، في جانب إيراداتها على عائدات النفط، ولم يتنازل هذا الاعتماد طوال تلك الفترة الطويلة عن تسعة أعشار إجمالي الإيرادات. لهذا، حضر ويحضر بقوة، التأثير الكبير لأي تغيرات تطرأ على الأسعار العالمية للنفط، ليس فقط على الميزانية العامة، بل على الاقتصاد الوطني بأكمله وأدائه؛ إذ راوحت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الاقتصاد خلال النصف الثاني من الفترة بين ثلاثة أعشاره إلى أربعة أعشاره، وهو أدنى من نسبه القياسية التي بلغها في النصف الأول من الفترة، التي وصلت إلى أكثر من نصف حجم الاقتصاد آنذاك.
تستمد أهمية التركيز على العلاقة بين الميزانية العامة والاقتصاد الوطني، ودراسة الأثر التبادلي بينهما، من عدة اعتبارات بالغة الأهمية، من أبرزها:
1 ــــ توطيد وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
2 ــــ تنويع ركائز النمو الاقتصادي المحلي، والعمل على خفض اعتماده على النفط.
3 ــــ خفض المخاطر المؤثرة على الأداء الاقتصادي. مع التأكيد على أن تبين هذه المحاور الرئيسة الكثير من التفاصيل المهمة جدا، التي تكشف النقاب عن آثار السياسات الاقتصادية الراهنة، ومدى جدواها (نجاحها أو فشلها).
#3#
تتبين العلاقة الراهنة بين الميزانية والاقتصاد، من خلال معرفة التفاصيل التالية، بالنسبة للميزانية:
يقدّر إجمالي إيرادات الدولة في الفترة 1970 ــــ 2013 بأكثر من 13.4 تريليون ريال، وهي 11.5 تريليون كإيرادات نفطية (85.3 في المائة من إجمالي الإيرادات)، ونحو 2.0 تريليون كإيرادات أخرى (14.7 في المائة من إجمالي الإيرادات)؛ فيما يقدّر إجمالي المصروفات الحكومية للفترة نفسها بنحو 11.7 تريليون ريال، وهي 8.4 تريليون كمصروفات جارية (72.1 في المائة من إجمالي المصروفات)، و3.3 تريليون كمصروفات رأسمالية (27.9 في المائة من إجمالي المصروفات)؛ ومؤدى كل ذلك على مستوى الميزان المالي نتج عنه فائض للفترة تجاوزت قيمته 1.7 تريليون ريال.
أما بالنسبة للاقتصاد الوطني، فوفقا لإحصاءاته بالأرقام الثابتة، فقد تراجعت نسبة القطاع النفطي إلى إجمالي الاقتصاد من 55.6 في المائة بنهاية 1970، إلى 47.9 في المائة بنهاية 1980، ثم إلى 35.7 في المائة بنهاية 1990، ثم إلى 21.7 في المائة بنهاية 2012.
في المقابل، ارتفعت نسبة القطاع غير النفطي للسنوات نفسها حسب الترتيب الزمني من 44.4 في المائة، إلى 52.1 في المائة، ثم إلى 64.3 في المائة، ثم إلى 78.3 في المائة.
وبالنسبة للقطاع الخاص، الذي يُعوّل عليه أَخْذ زمام الأمور، ليكون هو محرك النمو الاقتصادي، فقد جاءت نسب تطوره وفقا للترتيب الزمني أعلاه، من 26.4 في المائة، إلى 36.8 في المائة، ثم إلى 41.4 في المائة، ثم إلى 58.1 في المائة.
لا شك، أن نسب تطور القطاع الخاص إلى حجم الاقتصاد الوطني تظهر أداء لافتا، لكنها في الوقت ذاته تعجز عن تفسير أسباب استمرار الاعتماد الكبير على إيرادات النفط بتلك الصورة التي أظهرتها تطورات الميزانية (تسعة أعشارها من إيرادات النفط)؛ إذ على أقل تقدير كان يُؤمّل أن يصاحب هذا النمو اللافت في نسب القطاع الخاص إلى الاقتصاد الوطني، نموا في مساهمة الإيرادات غير النفطية في الميزانية.
خلاصة الحديث مما سبق، أن القطاع الخاص قام في أغلب أوجه نشاطه على:
1 ــــ زيادة اعتماده على الإنفاق الحكومي (المناقصات).
2 ــــ زيادة الواردات من الخارج، ومن ثم بيعها بالتجزئة في السوق المحلية.
3 ــــ زيادة استقدام العمالة الوافدة من الخارج ذات المهارات والتأهيل العملي المتدنية مستوياتها.
كل تلك العوامل المفسرة، تُبيّن لك نتائج لم ولن يكون لها أي أثر إيجابي في الأداء الاقتصادي. كيف يمكن تفسير ذلك؟
لقد أدت مدفوعات الحكومة المباشرة على مناقصاتها، إلى ذهاب جزء لا يستهان به إلى جانب أجور العمالة الوافدة، ومن ثم يتم تحويله للخارج.
كما أن مدفوعات الحكومة الجارية، سواء عبر مشترياتها المباشرة، أو عبر الرواتب المدفوعة إلى موظفيها، ذهب أغلبها إلى شراء الواردات من الخارج، ومن ثم تسرّبت إلى خارج الاقتصاد المحلي، إضافة إلى الأجور المدفوعة للعمالة الوافدة التي تشغل أغلب وظائف نشاط التجزئة.
وأخيرا، انحصر هامش المدفوعات المتبقي في أيدي القلة من ملاك تلك المنشآت (التشييد والبناء، أو نشاط التجزئة)، الذي إما تم تخزينه في السوق العقارية (مبان، أراض)، وإما أنه اتجه للتعامل مضاربيا في أي سوق أتيحت أمامه الفرصة لتلك الممارسات، أو أنه تسرب إلى الخارج بحثا عن أسواق خارجية للاستثمار، وجزء قليل منه توجه إلى تأسيس أو توسعة استثمارات محلية، وإن حدث ذلك فلم تذهب بعيدا عن الأوجه المحدودة للنشاط القائم محليا الأكثر جاذبية وربحية.
تقتضي التحديات التي يمر بها الاقتصاد الوطني، ويتوقع أن تتسع دائرتها مستقبلا بصورة أسرع، وتحت هذه الصورة الهيكلية المشوهة، أن يتم إعادة بناء الأمور من الأساس؛ ذلك أن جزءا كبيرا من إفرازاتها السلبية (تفاقم مُعدّلات البطالة بين المواطنين، ضعف مستويات الدخل، أزمة الإسكان، ضيق الفرص وقنوات الاستثمار المحلية، ضعف قاعدة التنويع الاقتصادي، ضعف البيئة الحاضنة لنمو المشاريع الناشئة الصغرى والمتوسطة، إلخ) ليست إلا انعكاسا مريرا لتلك العلاقات المقلوبة داخل اقتصادنا المحلي.
ولعل أولها، ما أتحدث عنه هنا، ممثلا في العلاقة بين الميزانية والاقتصاد، التي متى ما بدأت في عكس سيرها، أؤكد أن بقية العلاقات الداخلية اقتصاديا، ستبدأ هي بدورها في عكس مساراتها بالصورة المأمولة.
وهو ما تم التطرق إليه سابقا، في سياق الحديث عن ضرورة إيجاد رؤية اقتصادية شاملة، تستهدف التأسيس الرشيد للاقتصاد الوطني، والعمل على تثبيته على مسارات تحقق تلك الأهداف المشار إليها هنا.
مخاطر استمرار اعتماد الاقتصاد على النفط فقط
كما تبين أعلاه، كشفت البيانات الرسمية عن الاعتماد الكبير للاقتصاد الوطني على الميزانية العامة، وأن الميزانية بدورها تستند بأكثر من تسعة أعشارها على عائدات النفط، فيما لا يتجاوز مردود الاقتصاد الوطني على الميزانية أكثر من العشر، الذي تجاوزت قيمته حتى نهاية 2013 سقف 2.79 تريليون ريال (بلغت نسبة الإيرادات الأخرى غير النفطية 4.0 في المائة من إجمالي الناتج المحلي بنهاية 2013). علما بأن أعلى نسبة سجلتها الإيرادات الأخرى غير النفطية في هذا السياق كانت عام 1983، حيث بلغت 13.8 في المائة، وذلك نتيجة تراجع أسعار النفط العربي الخفيف خلال عامي 1982 و1983 بنحو ــــ 7.3 في المائة وــــ 9.4 في المائة على التوالي، وانعكاسه السلبي على النمو الحقيقي للاقتصاد الوطني، وتراجعه سلبا بنحو ــــ 10.5 في المائة وــــ 8.0 في المائة في عامي 1982 و1983 على التوالي. شهدت الميزانية العامة طوال فترة انخفاض أسعار النفط، زيادة في تشكل الدَّين العام الحكومي، واستمر في الارتفاع حتى بلغ ذروته في 2002، ومن ثم فإن أي احتمالات لتراجع أسعار النفط، في ظل ارتفاع المصروفات الحكومية، التي أصبحت تناهز تريليون ريال سنويا؛ فإن مسألة عودة الدَّين العام للارتفاع، لن تستغرق أكثر من عامين متتاليين، قياسا على إمكانية الاستفادة من الاحتياطيات التراكمية للفوائض في العقد الأخير.
وهذا سيشكل واحدا من أكبر الأثقال (المخاطر) على الأداء الاقتصادي مستقبلا، وما يزيد من ضغوطه، تأخر تحقيق درجة تقدم ملموسة على طريق تنويع القاعدة الإنتاجية المحلية.
الحاجة إلى رؤية شاملة للاقتصاد الوطني
يقتضي التفكير المبكر في تلك المخاطر، وغيرها من الجوانب (سواء الفرص، أو التحديات)، إعادة النظر بصورة عاجلة وجذرية، في جميع مكونات الاقتصاد الوطني، وضرورة تفعيل قدراته وتطويرها بالصورة التي تؤهله؛ أولا للتمتع بالتنوع اللازم على مستوى قاعدته الإنتاجية، وثانيا للوقوف بصلابة تجاه أية تحديات داخلية أو خارجية، وثالثا للاستقلالية أكثر باعتماده على القيم المضافة لإنتاجية نشاطاته المتعددة والمتنوعة، دون الاعتماد الكبير بصورته الراهنة على عائدات النفط. علما بأن الأهداف الثلاثة المذكورة هنا، تتسم بالدرجة نفسها من الأولوية القصوى، دون النظر إلى سلم الترتيب.
ما الخيارات المتاحة؟
إنها ــــ بفضل الله ــــ كثيرة ومتاحة، تتطلب فقط العمل وبذل الجهود بصورة أكثر إخلاصا وتركيزا، تحت مظلة رؤية شاملة للاقتصاد الوطني تأخذ في الاعتبار، زيادة تنوع القاعدة الإنتاجية، التي بدورها يؤمل أن تسهم في زيادة خلق مزيد من فرص العمل أمام المواطنين، وتعزز في الوقت ذاته من مستوى الدخل الحقيقي للأفراد.
ومن جانب آخر، مساهمة زيادة الاستثمارات المحلية، وتدفقات الاستثمار الأجنبي، وتشجيعها بالتركز على النشاطات الاقتصادية التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني، بمزايا نسبية إقليميا وعالميا، إضافة إلى تركزها على إحلال الواردات ذات الفاتورة الباهظة الثمن على اقتصادنا بكيانات إنتاجية محلية، وما سيخلقه ذلك من فرص عمل هائلة العدد، وبمستويات لائقة الدخل، عدا تخفيفه الكبير من الضغوط على الأجهزة الحكومية في مجال التوظيف، وتركز الوظائف الحكومية الجديدة على ما لا يمكن للقطاع الخاص تحمل أعبائه. جميع ما سبق، سيسهم بدوره المأمول في زيادة الإيرادات الأخرى غير النفطية للميزانية، مانحا إياها مزيدا من الاستقلالية عن تقلبات أسعار النفط.
أيضا، يأتي ضمن الخيارات المتاحة، التي بدورها ستسهم في تحويل كثير من التحديات الجسيمة أمامنا إلى نوافذ لفرص واسعة النطاق، كتأسيس ذراع حكومية عملاقة لتنفيذ مشاريع البنى التحتية بكفاءة أفضل، يتاح لاحقا للمواطنين المشاركة في تملكها، والاستفادة من عوائدها؛ خفض فاتورة الدعم الحكومي على موارد الطاقة التي تستهلك بصورة تتسم بكثير من الهدر والإسراف، عدا تشتتها على المستحق وغير المستحق، مقابل رفع مستويات الأجور بالنسبة للشرائح المستهدفة.
أخيرا وليس آخرا، بحث المزايا الهائلة تنمويا، في حال فرضت الزكاة أو الرسوم على الأصول العقارية بمختلف أنواعها، ومساهمتها المأمولة ليس فقط في زيادة الإيرادات الأخرى للميزانية، بل حتى في تيسير وحل أزمة الإسكان لدينا.
الركائز الرئيسة للرؤية الشاملة
إن تنويع قاعدة الإنتاج المحلية سيكفل تحقق الأهداف الرئيسة التالية:
1 ــــ زيادة الدخل والعوائد الاقتصادية.
2 ــــ زيادة المردود على الميزانية العامة في جانب إيراداتها الأخرى غير النفطية (الزكاة، الضرائب).
3 ــــ زيادة فرص التوظيف والدخل أمام المواطنين.
4 ــــ التوظيف الأمثل للاحتياطيات والثروات الوطنية داخل الاقتصاد الوطني.
5 ــــ ترسيخ الاستقرار الاقتصادي، وتنويع مصادر نموه.
يمكن تحقيق كل تلك الأهداف، عن طريق حسن استغلال الإيرادات النفطية القياسية، والدفع بها داخل أروقة الاقتصاد الوطني، وفق تلك الرؤية الشاملة المأمول رسمها، حيث ستعمل بدورها على خلق مشاريع متعددة الأغراض، تسهم في تحفيز وتنشيط بيئة الاستثمار المحلية، وتعزز من قدرته على الاستفادة من مزاياه التنافسية غير المستغلة في المرحلة الراهنة كما يجب، تتقدم عبر النافذتين الفرعيتين الرئيستين، وهما:
1 ــــ المشاريع العملاقة الممولة من الحكومة بمشاركة القطاع الخاص والتقنية المتقدمة للاستثمار الأجنبي.
2 ــــ المشاريع المتوسطة والصغرى الممولة والمدعومة من الحكومة، وتركيزهما على نشاطي الخدمات والصناعة، وفق احتياجات كل نشاط من النشاطين، حسب الإنتاجية والقيمة المضافة ودرجة التركز والتوظيف.
وتتطلب النافذة الأولى، نهجا مختلفا من السياسات والبرامج والإجراءات، تأخذ بعين الاعتبار:
1 ــــ تركزها على المجالات التي يتمتع فيها الاقتصاد الوطني بالميزة التنافسية.
2 ــــ مجالات وصناعات إحلال الواردات، حسب الجدوى والإمكانات المتاحة، في مقدمتها الموارد البشرية الوطنية.
3 ــــ ضخامة حجم رؤوس الأموال لتمويلها، سواء عبر تمويلها المباشر في رأس المال، أو عبر إتاحة المجال أمامها للاستفادة من التمويل الهائل والمعطل في سوق الدَّين (سندات، صكوك).
4 ــــ ضرورة بناء نماذج محكمة من الشراكات عالية الشفافية بين الحكومة والقطاع الخاص والشريك الأجنبي، تعزز من رفع كفاءة عوامل الإنتاج: رأس المال (الحكومة)، العمل (القطاع الخاص)، التقنية (الاستثمار الأجنبي).
فيما تتطلب النافذة الثانية، ممثلة بالمشاريع المتوسطة والصغرى، جهودا أوسع وأعمق بكثير مما هو قائم اليوم، ولا أبالغ بالقول إن هذه النافذة تعرضت في السابق لتهميش ونسيان كبير، وزاد العبء عليها أخيرا، بأن تلقت أقوى الصدمات التي أدت إلى إنهاء وجودها تماما، نتيجة لعديد من السياسات (التجارة، العمل، التمويل).
كما أؤكد، أن التعامل معها وفقا لتلك السياسات، بحجة أنها كانت الموطن الأكبر للتستر التجاري وغيرها من التهم، لم يكن موفقا إلى حد بعيد، لهذا تتطلب جهود دعم هذا النوع من المشاريع منهجية أخرى.
ولعل أبرز عناوين هذه المنهجية، ما تم المطالبة به منذ أكثر من عقد زمني مضى، أن تؤسس لأجلها "هيئة حكومية مستقلة"، تتولى وضع خططها وبرامجها، التي تربط أهداف إنشائها باحتياجات الاقتصاد الوطني، وتضعها على الطريق الصحيح، الذي يؤهلها لتلعب الدور المساند للمشاريع العملاقة المذكورة أعلاه، وأن تكفل لها سهولة الحصول على التمويل اللازم (لا تتجاوز حصتها من الائتمان المحلي نسبة 1 في المائة من الإجمالي).
ولست بصدد مقارنة وضعها المهترئ لدينا بمثيله في عديد من البلدان، ولا بصدد ذكر أهمية وجودها كلاعب يعزز من تنوع القاعدة الإنتاجية المحلية، ودورها في توفير الفرص الوظيفية الكبيرة أمام الباحثين عن العمل من المواطنين.
الخلاصة، أن تدفقا للثروات المعطلة خارجيا إلى داخل الاقتصاد الوطني، وفقا للنافذتين أعلاه، مؤداه تحقق فائدة أكبر لتلك الثروات لمصلحتنا، وتحقق للأهداف الرئيسة المبينة في مطلع المقال، لعل أهمها، دورها المأمول في دعم الإيرادات الأخرى غير النفطية، وتخفيفه الاعتماد على إيرادات النفط، بل يتجاوز هذا الهدف إلى تحقيق هدف حسن استخدام تلك العوائد، وتوظيفها في مصلحة الاقتصاد الوطني، بما يعزز من قدراته، ويوسع طاقته الاستيعابية. ولعله من المفيد، التذكير بالآثار الإيجابية التي تركها تأسيس مدينتي الجبيل وينبع وشركة سابك، في الفترة بين 1975 و1982 على الاقتصاد الوطني، حيث أنفقت الحكومة عليها وغيرها من المشاريع المهمة، التي تحولت اليوم إلى كيانات عملاقة، لها وزنها الكبير محليا وعالميا، وأؤكد أنها أنفقت فقط في تلك المرحلة ما يعادل 54 في المائة من الإيرادات النفطية عليها، فيما لم يتجاوز الإنفاق في المرحلة الراهنة مشاريع مشابهة، أكثر من 24.2 في المائة.
أولا وأخيرا .. محاربة الفساد
منحت تلك المزايا فرصا غير مسبوقة، نتج عنها تخصيص مبالغ مالية هائلة من الموازنات الحكومية للإنفاق عليها بسخاء، وصلت في عقد مضى قيمة المخصصات المعتمدة لتنفيذ المشاريع والبرامج الإنمائية لنحو 1.8 تريليون ريال، شكلت في المتوسط أكثر من ربع إجمالي المصروفات الحكومية في هذه الفترة، وجاءت تلبية مثلى للاحتياجات التنموية لكل من الاقتصاد والمجتمع.
وهنا يجدر التركيز حول درجة التقدم المتحققة عاما بعد عام لتلك المشاريع والبرامج، إذ إن مسؤوليتها ملقاة بالكامل على الأجهزة الحكومية المعنية، يشاركها المسؤولية منشآت القطاع الخاص الموكلة إليه مهام التنفيذ والتسليم.
وبالنظر إلى مقاييس كفاءة الاستثمار للإنفاق الهائل على تلك المشاريع والبرامج التنموية في الفترة الماضية (مساهمتها في النمو الاقتصادي الحقيقي)؛ فعلى الرغم من ارتفاع حجم المخصصات المالية للإنفاق عليها، إلا أنها أظهرت تراجعا لافتا في مُعدّلاتها، حيث سجلت تراجعا من أكثر من 27 في المائة في عام 2000 إلى ما دون 11 في المائة بنهاية العام الماضي.
إن هذا التباين اللافت بين زيادة الإنفاق الرأسمالي الحكومي من جانب، وانخفاض كفاءته من جانب آخر، يستدعي من المخطط الاقتصادي التوقف طويلا في هذه المفارقة المقلقة دون شك، والبحث سريعا في العوامل المتسببة في حدوثه، ومحاولة وضع الحلول العاجلة له؛ التي إن أهملت ستترك خلفها آثارا سلبية قد تتطلب لعلاجها وحلها أضعاف ما تم إنفاقه خلال العقد الماضي.
وتتسم آلية متابعة ومراقبة مستوى إنجاز المشاريع والبرامج بالأهمية القصوى، كونها مرتبطة بمستويات التنمية المستهدفة لتلبية احتياجات المجتمع والوطن. ولكيلا تتعطل تلك المشاريع البالغة الأهمية، ولأجل تحقيق الإنجاز المأمول من جميع الأجهزة الحكومية وشركائها من منشآت القطاع الخاص؛ تقتضي تلك الآلية مراجعة وفحص كامل السياسات الاقتصادية الكلية للاقتصاد الوطني، ومعالجة الثغرات المحتمل وجودها؛ فكما تشير مؤشرات القياس أعلاه، فإن جزءا كبيرا من الأسباب مترسب في صلب تلك السياسات والبرامج الاقتصادية.
أخيرا، ترتقي أهمية الإسراع بتطبيق تلك الآلية والإجراءات التابعة، إلى دورها المأمول تجاه منع تلك المشاريع الحيوية من أية احتمالات بتغلغل الفساد الإداري والمالي فيها، وهو ما سيحولها عن مسارها الأساسي الذي من أجله أقرت، والذي سيفضي تفاقمه بكل تأكيد إلى نتائج كارثية لن تحمد عقباها، وهو ما شهدته بعض المدن الرئيسة والمناطق الحضرية في وقت سابق قريب، كشفت عن تورط بعض الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص في قضايا فساد مالية وإدارية فادحة، نتج ما نتج عنها من خسائر مادية وبشرية فادحة جدا؛ ما يؤكد أهمية المطالبة إزائها بضرورة إخضاعها بالكامل دون استثناء لأعلى درجات الرقابة والمتابعة والشفافية، إضافة إلى اختبارات الالتزام بالمواصفات والمقاييس الموضوعة لتنفيذ تلك المشاريع والبرامج.