ما من «خزي» لا يتبعه آخر .. رائعة الجنوب إفريقي «كويتزي»

ما من «خزي» لا يتبعه آخر .. رائعة الجنوب إفريقي «كويتزي»
ما من «خزي» لا يتبعه آخر .. رائعة الجنوب إفريقي «كويتزي»

ج. م. كويتزي روائي جنوب إفريقي من أصل هولندي، من مواليد عام 1940. يعتبر ثاني جنوب إفريقي يفوز بجائزة نوبل، وذلك في عام 2003. أصدر روايته "خزي" عام 1999، التي تحصّلت في ذات العام على جائزةMan Booker الإنجليزية الشهيرة، التي نقلت للعربية عن دار الجندي، بترجمة أسامة منزلجي.
"ديفيد لري" أستاذ في جامعة كيب تاون، يدرّس الشّعر للطلّاب. يمارس عمله بروتينيّة كبيرة، لا شيء يدفعه ليعطي كلّ ما عنده لطلّابه، خاصّة حينما يرى تلك اللامبالاة المرتسمة على الوجوه وهو يتحدّث عن شعراء يعنون له الكثير، "كووردزورث" مثلًا.
قبل ذلك، تبدأ الرواية بمشهد مباغت، إذ يتوجّه "ديفيد لري" إلى أحد بيوت الدعارة ليمارس فيه أحد نزواته التي لا يتوانى عن اقترافها كلما لاحت له سانحة. في هذا المشهد الذي لا يفصح كثيرًا، نعلم أن اسم بائعة الهوى "ثريّا". وإن كان "لري" قد رغب في قرارة نفسه بالتّقرّب أكثر من هذه الثّريا مبهمة المشاعر، فإن مساعيه تتبعثر أمام ناظريه حينما يراها في الشارع ممسكة بيد طفلين "لا بد أنهما طفليها"، لتتغير العلاقة الودّيّة المأطرة في حدود العمل بينهما إلى قطيعة، حينما تقول له ثريّا: "والدتي مريضة، سآخذ استراحة من العمل للاعتناء بها، لن أتواجد هناك الأسبوع المقبل". إذ لم تعد ثريا لمقابلته بعد ذلك مطلقًا.

#2#

قد يتساءل من قرأ الرواية، لما كل هذا الكلام عن مشهدٍ صغير في مقدمة الرواية؟ أعتقد أنّه من المستحيل، في معرض الحديث عن عمل مهمٍ كهذا، أن ندير ظهورنا لهذه الإشارة، فحينما رأى ديفيد لري ثريا مع طفليها، والتقت نظراتهما من وراء الزجاج، كان ذلك كافيًا لنعلم أن الفاصل بين المعرفة الشخصيّة، والولوج إلى عوالم الآخرين الخاصّة لا بدّ أن يظلّ موجودًا؛ وإن كان ذلك الفاصل لا يتجاوز لوحًا من الزّجاج.

***
تسجّل في مادّة الشّعر التي يدرسها ديفيد لري، طالبة اسمها "ميلاني". جذّابة بعض الشيء، يلتقي بها ديفيد لري وجهًا لوجه، في حديقة الجامعة في ليلة ماطرة، ثم لا يلبث أن يقيم علاقة جنسيّة معها، دون أدنى شعورٍ بذنب، أو بإحساسٍ ببشاعة هذا الفعل من جانب "لري".
بل يذهب أبعد من ذلك في تسويغ نفسه حينما يقول: "لأن جمال المرأة لا يخصّها وحدها. إنّه الهبة السّخيّة التي تجلبها إلى العالم. ومن واجبها أن تتقاسمها". سيكون سهلًا التنبؤ بأن هكذا فضيحة لن تظل طيّ الكتمان؛ يُكتشف أمر "ديفيد لري" بعد تقديم أهل الطالبة ميلاني شكوة رسمية لدى الجامعة، يتم على أثرها تقدّمه باستقالته من العمل.
في البداية، يكون اسم الرواية أجوف، لا يكتمل معناه إلّا حينما يكتشف المقصود بالخزي. لكن، أيعقل أن تفرغ الرواية ما في جعبتها وهي لم تبارح ثلثها الأول؟ بعد استقالة لري، تتّخذ الرواية منحى آخر، ليتكشّف لنا أن ما حصل، لم يكن سوى "خزي" أوّلي، تتبعه سلسلة من الحوادث المخزية.
ينتقل لري إلى الرّيف حيث تقطن ابنته المولعة بهذا النوع من الحياة؛ المنزل المستقلّ والأرض التي تنتظر استصلاحها للزراعة الأعمال اليدوية والاعتماد الكلّي على الذات. لا يفهم لري بداية كيف تستطيع ابنته "لوسي" التّعايش مع هذا النمط الحياتي. في مقابلة بين المدينة والريف، يقول لري: "إذا كان في استطاعة الريف أن يحكم على المدينة، فإنّ المدينة تستطيع أن تطلق حكمها أيضًا على الرّيف"، لكن هل تستطيع ذلك حقًا؟ الريف المتمثل في لوسي، ظل قانعًا باستحالة ذلك: "إن الآباء والأبناء لم يخلقوا ليعيشوا معًا". لكنّها كانت ملجأه الوحيد، بعد أن لفظته المدينة هي الأخرى.
في صباح أحد الأيام، يهاجم مجموعة من "السّود" بيت لوسي، يحبسون ديفيد في الحمّام بعد ضربه وإحراق فروة رأسه، ثم يقوم أصغرهم باغتصاب لوسي بوحشية. بعد مرور شيء على الصدمة، يصارح ديفيد ابنته بشكوكه حول جارهم وشريك لوسي في الأرض "بتروس"، إذ إنه "أسود" هو الآخر، ولا بدّ أنّ له علاقة بأولئك السّفلة بشكلٍ أو بآخر. ترفض لوسي فتح الموضوع مع بتروس بطريقة غريبة، ويصعب علي فهمها كقارئ، كما لو أنّ "بتروس" هو الرّعب المطلق. يظل ديفيد عازمًا على تغيير موقفها، وتستمر هي بصدّه كحائط يأبى أن يتهدّم:

***
- "كم هذا مذل، كانت آمالا شامخة! وها هي الآن تنتهي إلى هذا"!
- نعم أوافقك. هو مُذل ولكن لعلها تكون نقطة بداية جيدة. لعل هذا علي ما أتقبله أن أبدأ من الصفر، بدون أي شيء، وليس بدون أي شيء إلا بدون أي شيء، بلا خيارات، ولا أسلحة، ولا ملكية، ولا حقوق، ولا كرامة!
- ككلبة!
- نعم، ككلبة"
يتبيّن لنا في هذا الحوار بين ديفيد ولوسي، بأنها لم تكن حائطًا صلدًا كما كان يبدو، بل إنها محطمة إلى ذلك الحدّ الّذي يعد فيه الموضوع جرحًا عميقًا، مجرد فتحة مدعاة لمزيد من النّزيف.
لعبت الرّواية على المفارقة المحكمة، يتبين لنا من سياق الأحداث أن "لوسي" فتاة سحاقية، مثلية الجنس؛ اغتصابها هنا كان ألمًا مضاعفًا إلى الذّل الّذي ينطوي تحت فعل الاغتصاب. ثم هناك المفارقة الأخرى، إذ كنّا نعتقد أن الخزي بداية هو خزي ديفيد وحده، ثم جاء أولئك السفلة ليرتكبوا فعلتهم الشنعاء، ليكون خزيا آخر. هنا حريّ بنا أن نسأل، أي خزي أراد كويتزي أن يشير إليه؟ يخيّل إليّ أن هذا سؤال غير صحيح، إذ إن هناك ملاحظة قد فاتني الإشارة إليها. عنوان الرّواية قد ترك نكرةً سواء بالترجمة العربية "خزي" أم باللغة الأصل Disgrace، لا لام تعريف هنا، ولا The هناك. ما يجعلني أعتقد أنّ الإشارة لم تكن لفعلٍ بعينه، بل إن كلا الفعلين كانا على قدر واحد من القباحة واستحقاق التسمية. هذه المفارقات، الّتي ألقاها كويتزي في وجهنا كأسئلة مفتوحة لا إجابات لها، ربّما كمزحات ثقيلة؛ أضفت عمقًا على الرّواية، جعلها لا تقف عند حدود الشخصيات أو الأحداث تموت بمجرد إغلاق الدفة الأخرى للكتاب، بل تتعدّاها إلى أسئلة تمسّنا كقرّاء أولًا، ثم كبشرٍ ثانيًا، ربّما لتعيلنا على تفادي خزينا الشخصيّ.
يقال إن كويتزي كاتب صارم في حياته، لا يحبّ الانفتاح كثيرًا، ويستهجن الاحتفاء الزائد بالطلب منه المشاركة في المحافل الأدبية كثيرًا، لو أردنا إسقاط ذلك على الرّواية لوجدنا ذلك متمثلًا حقًا في ديفيد لري، ولكي لا أستطرد كثيرًا سأورد مقطعًا صغيرًا يدلّل على كلامي "المشهد الختامي في الرّواية"، عن علاقة ديفيد بكلب أحبّه قدم إلى مصحّة الحيوانات المعطوبة، الّتي بات ديفيد يعمل بها مع "بيف شو" أحد معارف ابنته لوسي: "عَبَرَ غرفة العمليّات، "هل هذا آخر حيوان؟" سألته بيف شو. "بقي هناك واحد". فتح باب القفص، "هيّا" قال له، ثم انحنى وفتح له ذراعيه. تهادى الكلب بقدمه الخلفية العرجاء، اشتمّ وجهه، لعق خدّيه، شفتيه، وأذنيه. لم يفعل شيئًا لإيقاف ذلك، "هيّا". حاملًا إيّاه بين ذراعيه كالحمل، عاد ودخل إلى غرفة العمليّات.
- اعتقدت أنّك ستحتفظ به لأسبوعٍ آخر، هل ستتخلّى عنه؟
- نعم، سأتخلّى عنه.
تجدر الإشارة إلى أن هذا العمل قد تحوّل إلى فيلمٍ سينمائي في عام 2008 من بطولة جون مالكوفيتش "ديفيد لري"، وجيسيكا هاينس "لوسي".

الأكثر قراءة