لا تكثروا من «التوجيهات الشفوية»
ما إن أعفي "رئيس" أحد الأجهزة الحكومية من منصبه، وعين مكانه رئيس جديد إلا واستبشر جميع موظفي الجهاز بهذا التغيير ما عدا واحد!
ذلك "الواحد" كان مدير عام "المشتريات" الذي اعتراه قلق شديد خشية تعرضه إلى المسائلة، إذ إنه اعتمد صفقات شراء مواد ومعدات للجهاز الحكومي، بناء على توجيهات "شفوية" من الرئيس السابق، ومع تغير إدارة الجهاز تورط المدير العام في كيفية إثبات أن عمليات الشراء تمت بموافقة "شفوية" من رئيسه الذي ترك الكرسي، ولا يوجد أي دليل يثبت ذلك، ويحميه من طائلة المسؤولية أمام الإدارة الجديدة والجهات الرقابية!
مع الأسف، نلاحظ أن ثقافة "التوجيهات الشفوية" متفشية في أجهزتنا الحكومية، وبدأت تنتشر في مؤسساتنا الخاصة، حيث يقوم المسؤول بإعطاء المرؤوس توجيه بأن يفعل كذا أو ألا يفعل كذا، إما مباشرة في اجتماع منفرد أو عبر الاتصال الهاتفي، وعادة ما يتحرج "المرؤوس" من طلب توجيه "مكتوب" من رئيسه، خوفا من أن يرد عليه الرئيس بالسؤال التشكيكي: "ألا تثق بي؟".
من المعلوم أن التوجيه الشفوي "أسرع" في الوصول من التوجيه المكتوب، وخاصة في أثناء "الأزمات"، حيث ليس من المقبول أن ننتظر التوجيهات المكتوبة، والناس يتعرضون لأمر طارئ، لهذا، فإن المطلب الذي ندعو إليه ليس التوقف عن إصدار التوجيهات الشفوية ــ وهذا أمر مستحيل في الإدارة ــ وإنما ندعو إلى "تقليص" التوجيهات الشفوية مع زيادة التوجيهات المكتوبة في مؤسساتنا الحكومية، حرصا على الوضوح والشفافية.
وإذا أردنا أن نحدد النسب المقبولة في التوجيهات الشفوية والمكتوبة، يمكننا أن نقول إن المسؤول الواثق بنفسه ويتمتع بالنزاهة والشفافية، سوف يحرص على أن تكون 75 في المائة من توجيهاته "مكتوبة"، بينما 25 في المائة (أو أقل) من توجيهاته "شفوية"، على أن ترتبط التوجيهات المكتوبة بكل ما من شأنه إتمام أو إيقاف إجراء إداري (ترقية أو تأجيل ترقية موظف) أو إتمام أو إيقاف إجراء مالي (صرف مبلغ أو إيقاف صرفه)، بينما التوجيهات الشفوية يفترض أن تتعلق بالأمور "الهامشية" التي لا تترتب عليها مساءلة، كأن يطلب المسؤول "شفويا" من أحد مرؤوسيه تنظيم اجتماع أو إعداد تقرير أو تصوير خطاب.
والكارثة أن نسمع عن جهات حكومية قامت بترسية عقد توريد أو عقد تنفيذ مشروع على شركة "معينة" بناء على "توجيه شفوي" ورد من خلال اتصال هاتفي، لكن ما إن تخضع هذه الجهة أو إحدى إداراتها إلى تدقيق داخلي أو خارجي، سيظهر من ضمن "المخاطر"، أن هناك إجراءات إدارية أو مالية تمت بدون موافقة مكتوبة وصريحة من صاحب الصلاحية.
ولهذا، فإن المدير الذي يعتمد على التوجيهات الشفوية بنسبة كبيرة (تزيد على 25 في المائة من إجمالي توجيهاته)، هو أحد اثنين، إما:
- مدير "ضعيف" غير واثق من قراراته، ولا يعرف حدود صلاحياته، ويخاف دائما من ردة فعل المستوى الإداري الأعلى.
- أو مدير "فاسد" يدرك أنه يخالف النظام، ولا يريد أن يترك أي دليل يدينه أمام الجهات الرقابية.
فعلى العكس من المدير القوي (الواثق بنفسه وقراراته)، يعتمد المدير الضعيف دوما على التوجيهات الشفوية، لأنه يستطيع أن يتراجع عنها بكل سهولة، وفي أي وقت، دون أن تقام عليه الحجة، فمثلا يقوم المدير "الضعيف" بتوجيه موظفيه توجيها "شفويا" بعدم استقبال المراجعين بعد الساعة الواحدة ظهرا، وحالما تكتشف الإدارة العليا ذلك، وتوبخ المدير على قراره، يبادر المدير (الخواف) إلى نفي ذلك التوجيه، مؤكدا أن مرؤوسيه لم يفهموا حقيقة التوجيه (الشفوي)، وأن المقصود ألا يستقبلوا المراجعين بعد الساعة الثانية وليست الساعة الواحدة ظهرا، ويبدأ عندئذ بلوم الموظفين متهما إياهم بالغباء!
أما المدير "الفاسد"، فإنه يسعى إلى كسب مصالح شخصية على حساب المصالح العامة، ويعلم أن تحقيق مصالحه الشخصية يخالف النظام، ولذلك يفعل كما يفعل المجرمون، أي إخفاء معالم الجريمة عن المراجعين الداخليين والخارجيين والجهات الرقابية، فمثلا يقوم المدير "الفاسد" بتوجيه أحد موظفيه توجيها "شفويا" بقصر التعيين على المتقدمين من أبناء منطقته ورفض المتقدمين من المناطق الأخرى، أو يقوم المدير بتوجيه الموظفين توجيها "شفويا" بتسديد مطالبة شركة المقاولات التي يملكها أحد أقاربه على حساب مطالبات أخرى أكثر استحقاقا.
وكنت دوما أتوجس من العبارات الغامضة من نوع "للمفاهمة" أو "حسب المفاهمة" التي تذيل بعض المذكرات الداخلية في مؤسساتنا الحكومية، حيث تحمل في ثناياها احتمالات عديدة، على رأسها أن الموضوع الذي "يتفاهمون" حوله "رمادي"، ولا يخلو من تلاعب أو فساد، وإلا لكان التوجيه على أسفل المعاملة واضحا وصريحا كالأبيض والأسود.
إن عملية اتخاذ القرارات في أجهزتنا الحكومية تتم بطريقة "اجتهادية"، وتختلف من مسؤول إلى آخر، فهناك البارع في اتخاذ القرارات وإعطاء التوجيهات، وهناك المتعثر، وكل مسؤول يعتمد على خبرته، إذ لا يوجد إطار رسمي أو حتى برنامج تدريبي موحد يهتدي به المسؤولون عند صنع أو اتخاذ قراراتهم. لذلك، أدعو مجلس الوزراء السعودي والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة" أن يسهما في تغيير ثقافتنا الإدارية من خلال:
- الاعتماد على "التوثيق الإداري"، من خلال التأكد من توافر سياسات وقرارات وإجراءات مكتوبة ومعتمدة لكل جهة جكومية، فهي تعد من أهم متطلبات "الجودة" التي تسعى إلى توحيد العمليات المؤدية إلى إنتاج السلع أو الخدمات.
- وضع لائحة للصلاحيات لكل جهة حكومية تحدد الصلاحيات الإدارية والمالية والمعلوماتية لمسؤوليها، على أن تكون هذه اللائحة مبنية على الأنظمة واللوائح التنفيذية التي تشرف المؤسسة على تطبيقها.
- وضع ضوابط رسمية تؤطر عملية اتخاذ القرارات وإصدار التوجيهات في جهاتنا الحكومية يلتزم بها جميع مسؤولينا، على أن ُتشرح هذه الضوابط في ورش عمل معتمدة في معهد الإدارة العامة، وأن يكون من ضمن تلك الضوابط.. الالتزام بأن تكون النسبة الكبرى من توجيهات المسؤول مكتوبة (75 في المائة أو أكثر)، مع تقليص التوجيهات الشفوية (25 في المائة أو أقل).
كلنا أمل أن يتحقق ذلك ــ يوما ما ــ لتعزيز توجهنا نحو ممارسة العمل بثقة ووضوح وشفافية، تسد بابا واسعا من أبواب الفساد.