قيِّم ذاتك .. قبل الدخول إلى سوق العمل

في أيلول (سبتمبر) 2013، طرحنا عبر “الاقتصادية” (العدد 7274)، فكرة توفير مرشدين ومرشدات مهنيين في المدارس الثانوية والجامعات، يتولون إسداء النصح للطلاب والطالبات، ويساعدونهم على اتخاذ القرارات الصائبة حيال اختيار المجالات الدراسية والوظيفية التي تلائم كل واحد منهم.
وما زلت مقتنعا بهذه الفكرة، وضرورة تطبيقها، خاصة عندما نقوم بإجراء مقابلات وظيفية مع الداخلين الجدد إلى سوق العمل، أو نلتقي الطلاب والخريجين خلال فعاليات أيام المهنة، حيث تتضح الحيرة جلية في وجوههم، فيما تغيب الرؤية والأهداف عنهم، وكثير منهم لا يعلم عن نفسه سوى أنه “حامل شهادة في تخصص معين”!
ومن الآن إلى أن يتم تبني فكرة “المرشد الوظيفي”، ننصح الشباب والفتيات قبل الدخول إلى سوق العمل، أن يخضعوا أنفسهم لاختبار “تقييم الذات”، فيعرف كل منهم الحوافز التي تحركهم، والقيم التي يؤمنون بها، والاهتمامات التي يحبونها، والمهارات التي يملكونها.
ففي بداية عملية تقييم الذات (تحديد القيم والاهتمامات والمهارات)، يجب على الخريج أو الخريجة أن يسأل نفسه سؤالا كان يجول في خاطره وهو صغير: “ماذا أريد أن أصبح عندما أكبر؟”، ثم يستعرض إجاباته المختلفة عن هذا السؤال (معلم، طبيب، مهندس، طيار، عسكري..)، عليه أن يعود بذاكرته إلى أيام الطفولة حتى لحظة السؤال، أن يسرد كل ما يستطيع أن يتذكره من خواطر كانت تطرأ في ذهنه خلال سنوات الدراسة الابتدائية، وسيلاحظ الباحث عن عمل أن إجاباته رغم اختلافاتها تتضمن قاسما مشتركا يربط بين عناصرها كالقيم والأفكار والاهتمامات التي ظلت مستمرة معه طوال سنوات عمره.
بعد أن يتم طرح السؤال السابق، يبدأ الباحث في تحديد “القيم”، وهي الأفكار التي يؤمن بها وتشكل نظرته لهذه الحياة، وبالتالي يستطيع ــ بناء على هذه القيم ــ التمييز بين ما يعتبره “صوابا” و”خطأ”، أو بين ما يعتبره “جيدا” و”سيئا”، ونلاحظ أن بعض الأفراد قد يتمسكون بقيم معينة طوال حياتهم، بينما يتخلون عن قيم أخرى، أو تقل أهميتها بالنسبة لهم مع مرور الزمن.
وتتشكل القيم في مرحلة مبكرة من حياتنا، وتتفاعل أطراف كثيرة لتشكيلها في نفوسنا، كالأسرة والأصدقاء والثقافة والتعليم والإعلام (في أمريكا مثلا الأسرة تزرع في نفوس أبنائها قيمة “المنافسة”، بينما تزرع بعض الأسر السعودية قيمة “الاستقرار والأمان الوظيفي”)، وربما تتأصل القيم في نفوسنا لدرجة أننا نصبح غير مدركين لوجودها أو قد لا نعيرها اهتماما في أثناء عملية البحث عن عمل، علما بأن بحثنا عن عمل يتناسب مع هذه القيم سيحقق لنا الرضا الوظيفي على المدى البعيد، أما إيجاد وممارسة عمل يتعارض مع قيمنا الأساسية، فقد يؤدي بنا إلى الإحباط، وربما الاكتئاب، ولهذا، فإن من أهم عناصر تقييم الذات أن يدرك الفرد القيم التي يؤمن بها، ومن هذا المنطلق يبحث عن وظائف وجهات عمل تتوافق مع قيمه الجوهرية.
ونظرا لاختلاف الباحثين عن عمل من حيث الشخصية والثقافة والميول والاهتمامات، نلاحظ أن هناك مجموعة من “القيم” يحرص كل واحد منهم على توافرها في بيئة العمل التي يود أن يلتحق بها، مثل: توافر فرص التطور الوظيفي والتعلم المستمر، إمكانية القيادة والتأثير في الآخرين، اتخاذ القرارات والقدرة على تحديد الإجراءات، بذل المجهود الذهني (حل المشكلات)، بذل المجهود البدني، ممارسة العمل الجماعي، إمكانية الموازنة بين العمل والأسرة، المرونة في طبيعة العمل، توافر مستوى عال من المنافسة، الصدق والأمانة، الاستقرار والأمان الوظيفي، الرواتب والمزايا المالية المرتفعة، تحقيق أثر إيجابي في الآخرين والمجتمع، استخدام للإبداع والخيال، تعامل مع الجمهور (العملاء)، أو استخدام للتقنيات المتطورة.
هل يدرك “الباحث” الأعمال أو الأنشطة التي يحبها قبل الدخول فعليا إلى سوق العمل؟ من واقع تجربة، نلاحظ أن نسبة كبيرة من الباحثين عن العمل يجهلون هذا الجانب، ولعل أفضل طريقة تساعدهم على تحديد الأعمال التي يحبونها أو التي لا يحبونها أن يعتمدوا على أي تجربة سابقة، كالعمل بدوام جزئي، أو الالتحاق بفرصة تدريب تعاوني أو صيفي، أو التطوع لعمل الخير ومساعدة الآخرين. ومن هنا، يستطيع الباحث أن يضع تصنيفا للأعمال على ثلاثة مستويات: الدراسة، والعمل، والحياة، وبالتالي يميز بين المهام التي يحبها أو لا يحبها على كل مستوى.
قد يظن الباحث عن عمل أن المهارات هي تلك التي لا يتم اكتسابها إلا من خلال برنامج تدريبي، لكن في الواقع أننا نكتسب طوال حياتنا نوعين من المهارات: مهارات “فنية” ترتبط بمهنة أو وظيفة محددة، ومهارات “ذاتية” تكتسب من تجارب الحياة، ويمكن استخدامها في مجالات عدة.
فالمهارات الفنية، هي مهارات ملموسة يسهل قياسها، تكتسب إما عن طريق الدراسة أو التدريب، مثل مهارات استخدام الكمبيوتر، وإعداد التقارير الإحصائية، وأساليب البحث العلمي. أما المهارات الذاتية، فيمكن أن تكتسب خلال مراحل مختلفة من حياة الفرد، أثناء الدراسة والعمل والتطوع والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية الأخرى، وتتضمن هذه المهارات: مهارات التنظيم، والقيادة، وحل المشكلات، والتواصل، والمبادرة، والإبداع، وهي مهارات تعد قابلة للاستخدام في أي وظيفة أو جهة عمل يعمل بها الفرد بغض النظر عن النشاط أو القطاع.
لذلك، قبل أن يعد الباحث سيرته الذاتية أو يستعد لحضور أول مقابلة وظيفية في حياته، يجب أن يمر بمرحلة تقييم الذات (اختبار لن يستغرق أكثر من ساعة)، فإذا كان لا يستطيع أن يعرف إمكاناته، فكيف لأصحاب العمل أن يعرفوها وهو يتقدم إليهم؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي