#الذوق_العام .. من وسم إلى مشروع وطني
تزعجني رؤية بعض أفراد مجتمعنا متقدمين "ماديا" لكنهم متخلفون "سلوكيا"، مشاهد تتجلى في:عدم احترام النظام، انعدام اللباقة عند التعامل مع الآخرين، انعدام التخطيط والتنظيم في شؤون العمل والحياة (الفوضوية)، عدم احترام الوقت، النقد غير البناء (السلبية)، الفضول والتدخل في خصوصيات الآخرين، وإهمال متطلبات السلامة.
هناك أربعة عوامل تعزز الوعي، وترفع مستوى الذوق العام لدى الناس: التربية (الأسرة)، والتعليم (المدارس والجامعات)، والإعلام (بكل وسائله)، وفرض القانون (المؤسسات الحكومية). ضعف هذه العوامل أسهم في ترسخ التخلف السلوكي عند البعض (تدهور مستوى التعليم، ضعف التربية، انشغال الإعلام بقضايا ثانوية، تهاون بعض الجهات الحكومية في ممارسة دورها الرقابي).
بلد بكل هذه الإمكانات المادية، ماذا ينتظر أبناؤه لكي يتغيروا ثقافيا؟ والمقصود بالتغير الثقافي هنا، استبدال السلوكيات السلبية (المتخلفة) بسلوكيات إيجابية تعكس مستوى التحضر اللائق.
لذلك، يأتي التساؤل كيف يمكن إحداث تحول ثقافي لأفراد المجتمع؟ ومن يتحمل مسؤولية هذا التغيير؟ الحكومة؟ مؤسسات المجتمع المدني؟ الجامعات؟ المثقفون؟ هل ننتظر الآلاف المبتعثين كل عام للعودة إلى البلد لكي يحدث التغيير الكبير في السلوك؟ كم سيستغرق هذا التغيير؟ ولماذا ننتظر كل هذه السنوات لكي نتغير؟ ألا ندرك أن "الزمن" هو أثمن مورد للبشر، وإذا لم نبدأ "الآن" في التغيير، فإن أي لحظة تمر بعد "الآن" تأتي في الوقت الضائع؟
إن موجات "التغيير السلوكي" تبدأ صغيرة لكنها مع الوقت تتمدد حتى تصبح كموجات الـ "تسونامي" تغمر الجميع. هكذا بدأت إحدى المبادرات من المنطقة الشرقية من السعودية، مستعينة بموقع "تويتر" من خلال إنشاء وسم #الذوق_العام الذي يهدف إلى رصد الممارسات السلبية في المجتمع وتمس كل ما يخدش الذوق العام من رمي النفايات، وتواضع النظافة، وسوء استخدام الممتلكات العامة، وارتكاب المخالفات المرورية بجميع أصنافها وغير ذلك، مع طرح المقترحات (بالكلمات والصور) للحد من تلك الممارسات السلبية.
وقد تولى أحد أبناء المنطقة الشرقية المواطن/خالد الصفيان إطلاق مبادرة #الذوق_العام، وتحولت بمرور الوقت من مبادرة فردية إلى ظاهرة تفاعل معها عدد كبير من أفراد المجتمع، حيث شاركوا بـ 2500 تغريده خلال الأيام الثلاثة الأولى من إنشاء الوسم، وكان هذا التفاعل الإيجابي مصدر إلهام لتوسيع دائرة التأثير ونشر ثقافة الذوق العام بين جميع أفراد المجتمع.
ويروي لنا الصفيان أنه التقى ببعض الأقارب والأصدقاء لبحث كيفية البدء والانطلاقة المثلى لهذه الفكرة، وبدأ كل من حوله يتفاعل ويشجع ويساند حتى التقى بالمهندس محمد الدبل - رجل الأعمال والناشط الاجتماعي - الذي أخذ على عاتقه السعي وبذل كل ما في جهده لإيصال هذه الفكرة، والتوسع في نشرها، والعمل على تنظيمها بالشكل المناسب.
ذلك أن الارتقاء بالسلوكيات اليومية قادر على الارتقاء بأمة كاملة، وهذه كانت الرسالة الرئيسة في الفيلم القصير الذي أنتجه فريق العمل وبث في بداية أكتوبر 2013 في "يوتيوب" تحت مسمى #الذوق_العام نفسه، حيث دشن من خلاله فكرة الحملة، ملهما فيما بعد لظهور عدد متزايد من المواد المرئية الداعمة لمبدأ الذوق العام، حيث أخذ الناس في تحميلها على موقع "يوتيوب"، وتنوعت بين عرض آراء أصحاب الفكر والعلم والشخصيات البارزة، وبين استعراض عدة تطبيقات عملية لفكرة الذوق العام في عدد من المنشآت والمدارس ومؤسسات المجتمع.
ولم تأخذ المبادرة وقتا طويلا حتى حظيت بتبني أمير المنطقة الشرقية، الأمير سعود بن نايف، الذي حول الفكرة إلى "مشروع وطني" تكون انطلاقته من المنطقة الشرقية كلبنة أساسية وأولية، ليتاح بعد ذلك تعميم التجربة في مناطق أخرى من السعودية، حيث التقى سموه بفريق الحملة خلال احتفالية ذكرى اليوم الوطني، مرحبا بالمبادرة وداعما لها، مما شجع فريق العمل على التواصل مع جميع أطياف المجتمع - بالتنسيق مع إمارة المنطقة الشرقية - حيث عقدت الاجتماعات وورش العمل والزيارات التشاورية بغية تحقيق الأهداف المرجوة، وتم خلالها رصد العديد من التصرفات الإيجابية والسلبية على حدا سواء، وجرى تحليلها التحليل الدقيق، وطرح الحلول على المديين القصير والبعيد.
إننا نحتاج إلى العديد من المبادرات كالتي أطلقها الصفيان، بل نحتاج إلى تضافر عدد من الجهات الحكومية (من ضمنها: وزارة الداخلية، وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالي، وزارة الثقافة والإعلام، الهيئة العامة للسياحة والآثار، هيئة حقوق الإنسان، مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تشترك جميعا في إطلاق حملة توعوية ضخمة تهدف إلى تغيير السلوكيات السلبية واتباع السلوكيات الإيجابية، من خلال وسائل الإعلام التقليدي والجديد بأسلوب جذاب وبناء يخلو من النمطية أو الوعظ.
فـ #الذوق_العام، كما يقول الصفيان ونحن نتفق معه، يعد لبنة أساسية في بناء الحضارات، ولهذا دعونا نبدأ بأنفسنا، وبالدائرة القريبة منا، وسنذهل عندما نرى المجتمع بأسره يتغير، فنحن قادرون على التغيير لكننا نحتاج إلى "الإرادة"، بدليل أننا فجأة "نتغير" عندما نسافر إلى الخارج!